إجراءات دولية لمواجهة السياسة «الترامبية»
سماهر الخطيب
تشير التحوّلات الجيوسياسية والمواجهات الاقتصادية والتلويحات العسكرية، إلى تضارب في الاستراتيجيات العالمية التي اختلطت فيها قواعد اللعبة الدولية وتنافرت معها نظريات العلاقات الدولية وتشابكت آراء منظريها وباتت الساحة العالمية ضبابية الملامح ذات رؤية غباشية وكأنّ العالم يعيد رسم خارطته الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية من جديد. وكلما كان الصراع على الهيمنة في الاقتصاد العالمي أكثر حدة، زادت فرص تحوله نزاعاً عسكرياً.
أميركياً، أدّى وصول الرئيس دونالد ترامب إلى رأس الهرم الأميركي في السلطة وتسلّمه كفة القيادة إلى إثارة أمواج متلاطمة في بحر السياسة الخارجية الأميركية وفق تناقضات تصريحاته وقراراته وطريقة إدارته المبهمة والعصية على التنبؤ بها لتضاربها في ما بينها. يبدو من خلالها كما «سمسار العقارات» و «التاجر الفلهوي» يسمسر بسياسات وقرارات متناقضة ويتخذ قرارات متباعدة في ما بينها من حيث الدقة والحس السياسي لتبدو سياسته الخارجية بـ»لا عدو ولا حليف» أكثر ما يثير التساؤل والاستغراب، فبينما يصف روسيا بالعدو يسعى من جهة أخرى إلى عرض علاقات الصداقة وتنسيق العلاقات والتعاون.
وفرض رسوم جمركية على واردات أوروبية وتهديد بالانسحاب من الناتو ومطالبته الأوروبيين بزيادة النفقة العسكرية وتهديده الشركات الأوروبية في حال تعاملها مع طهران بالعقوبات الاقتصادية، بالترافق مع دعوة إلى عقد اتفاق تجاري «جيد» وتقوية علاقاته الثنائية مع دول الاتحاد الأوروبي منفردة وخاصة ألمانيا وفرنسا.
كما أنّ الصادرات الصينية لم تسلم من حربه التجارية ولم يسلم معها زيادة التوتر العسكري في بحر الصين الجنوبي لترافق الحرب التجارية «زكزكات» عسكرية سياسية.
وفي اتفاقه مع كوريا الشمالية بعد تصعيد في العقوبات عاد الآن ليتناقض مع اتفاقه في تصريحات اعتبرتها بيونغ يانغ كمن يسكب الماء على الاتفاق معها.
كذلك في انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران وفرض القائمة الأولى من العقوبات الأميركية على طهران ترافق معها عرض اللقاء بالرئيس الإيراني حسن روحاني وتصريحه برغبته بالتعاون مع طهران وفق شروطه طبعاً.
تلك السياسات المتضاربة والمتناقضة في ما بينها عصفت بسياسات الدول الخارجية وجعلت الاستراتيجات جميعها تتخذ في مواجهة السيناريو السياسي الأميركي المبهم بالظاهر وفق تلك المواقف الترامبية المبهمة إنما الهدف الذي يدركه الجميع من تلك السياسة هو محاولة الولايات المتحدة للعودة إلى نظام القطب الواحد عبر ضرب التناقضات لجعلها تنصهر ضمن البوتقة الأميركية مستخدمة ما تملكه من قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية.
لمواجهة تلك السياسة الترامبية ومن ورائها ما يعدّه صناع القرار الأميركي عدّت الدول عدّتها وتجهزت للمواجهة، إنما السؤال هل ستنجح تلك الدول في مواجهة الهرم الأميركي أم أنّ هناك نكسة ستصيب ما أعدّوه من استراتيجيات ضدّ تلك الاستراتيجية الأميركية؟
الصين، لن تخضع للابتزاز بسبب الرسوم الجمركية الجديدة التي تفرضها واشنطن، وهدّدت وعاملت بالمثل كما أنّ الاستراتيجية الصينية الخارجية قائمة على الدبلوماسية وتستطيع مجاوزة ذاك الابتزاز وفق ما تتمتع به من قوة دبلوماسية وخاصة أنّ العلاقات الاقتصادية القوية التي ربطت العلاقات الصينية الأميركية استثمرت من خلالها الدبلوماسية الصينية لتربطها بتبادلات في المجال الثقافي والعلمي والتربوي. ذلك، خلق أساساً متيناً للصين عالمياً وليس فقط أميركياً.
وعبر منظمة شنغهاي وبريكس وعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي وعلاقاتها الثنائية مع دول الاتحاد ستجعل من تنامي قوتها الاقتصادية فرصة أكبر أمام النفور والتوجس الدولي من السياسة الأميركية «المصلحية» الانعزالية.
أوروبا، رغم ما صدر عن البيت الأوروبي من رفض للعقوبات الأميركية على طهران ومواجهتها بتفعيل «التعطيل» ورفض الرسوم الجمركية المفروضة على صادراتهم والتلويح بالتعامل بالمثل، والخلاف حول الناتو وزيادة الميزانية الدفاعية والقول بإقامة جبهة دفاعية أوروبية خاصة بالاتحاد، فعلى مستوى العقوبات على طهران وما يتبعها من عقوبات على الشركات الاوربية فأنّه سيكون من الصعب عليهم الوفاء بالتعويضات المعلنة لشركاتهم، والاتفاق مع ترامب حول استثنائها من نظام العقوبات.
الحزمة الثانية من العقوبات خطر شديد على الأوروبيين، ولديهم ثلاثة أشهر للنظر في أعمالهم. وعلى الرغم من حقيقة تعهد الاتحاد الأوروبي بحماية شركاته، فإن معظم شركات الطاقة الأوروبية الكبرى «لها مصالح جادة في الولايات المتحدة» فستكون المرحلة المقبلة مرحلة عصيبة على الاتحاد الأوروبي ستصعب عليه المخاطرة في مصالحه «الليبرالية» فمن غير الواضح بعد ما إذا كان الأوروبيون قادرين على مقاومة إدارة ترامب إذ لا يوجد أمل كبير بالنسبة للاتحاد الأوروبي باعتباره «بنية فوق وطنية»، ذلك أن بيروقراطيته المكبِّلة أقل قدرة على المناورة من الأميركية.
أما إذا استمرت الحرب التجارية في مرحلة لاحقة من المواجهة فيمكن أن يميل كلا الطرفين إلى إجراءات أكثر حزماً.
روسيا، اتخذت استراتيجيتها منحى المواجهة بكل مفاصلها. آخرها كان الاتفاق التاريخي لدول بحر قزوين مانعة فيه الوجود الأميركي في هذا البحر ولم تنسَ مواجهة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها عبر هذا الاتفاق وتعزيز تمركزها في البلطيق وربط علاقات تجارية وسياسية مع الاتحاد الأوروبي وثنائية مع دوله وكذلك عززت علاقاتها مع الدول الآسيوية وتتوجها علاقاتها مع شريكها الصيني في شنغهاي وبريكس كما عززت وجودها في القارة السمراء.
إيران، كما روسيا عزّزت تمركزها الآسيوي وتوّجته باتفاق قزوين التاريخي واضعة خطة بديلة في مواجهة احتمالات عدم الوفاء الأوروبي بتعهداته. وفي الوقت نفسه تتملص من شدة العقوبات الاميركية عبر فتح ممرات جديدة للتجارة.
تركيا، هددت ولوحت بإيجاد حلفاء جدد وأسواق جديدة..
جميع تلك المواقف والردود تلوّح إلى أنّ العالم اليوم هو في إعادة تشكيل لخريطته الجيوسياسية والاقتصادية. طالما أن الاقتصاد لا ينفصل عن السياسة، فإن الحرب الاقتصادية ستجر معها حرباً سياسية تؤدي إلى تحالفات جديدة في مواجهة «الخبث» الأميركي.. ويبدو جلياً أنّ ما قاله بريجنسكي في كتابه رؤية استراتيجية عن ميلان ميزان القوة من الغرب باتجاه الشرق بات واضح المعالم.. وما سيرتدّ على ترامب من نتيجة لسياسته هو كما حصل في قصة «الطبل فارغ في جعبة الثعلب الماكر».