أميركا الضياع بين القواعد العسكرية وقواعد الأخلاق الإنسانية…!
محمد ح. الحاج
مع نهاية الحرب الكونية الثانية سجلت الولايات المتحدة سقوطاً مريعاً من عالم الإنسانية والأخلاق بعد ضرب مدينتين يابانيتين بالقنابل الذرية، ما أدّى إلى مصرع مئات آلاف الضحايا كما أدّى تأثير القنبلتين على المدى البعيد إلى ولادة جيل مشوّه في أغلب المناطق القريبة من هيروشيما وناغازاكي، إضافة إلى الكارثة البيئية التي أصابت اليابان بشكل عام في محيط كلتا المدينتين.
المؤكد أنّ الشعور بهول الجريمة عمّ العالم كله، ومن هذا العالم الشعب الأميركي، وهذا ما دفع لاحقاً – كما قيل – بالطيارين الذين ألقوا القنبلتين إلى الانتحار، ولا شك، أيضاً بأنّ الشعور بالذنب شمل قطاعات كثيرة من السياسيين والعسكريين وضمن حدود متفاوتة، لكن مصالح الولايات المتحدة شكلت الغطاء لتبرير الجريمة وبعدها فرضت أميركا وجودها في جزيرة أوكيناوا وأجواء وبحار اليابان والكثير من مناطق جنوب شرق آسيا ودول أوروبا، قبل عقدين حصل الانتشار في باقي دول العالم لتشمل القواعد الكثير من الدول العربية والأوروبية الشرقية في أحدث توسّع بعد انفراط عقد حلف وارسو، وتحيط هذه القواعد بالدولة الروسية ومن مهامها الأساسية حماية المصالح الأميركية والتلويح بضرب من تعتبره الإدارات الأميركية المتعاقبة مصدر تهديد لمصالحها في أية منطقة على مساحة الكرة الأرضية، وجعلت من المشروع الصهيوني واحداً من أهمّ هذه المصالح.
بدا أنّ القوة العسكرية الأميركية ترسّخت عبر العالم، وفرضت وجودها تحت مقولة حماية العالم الليبرالي «الحر» من العدو الأول «الماركسية الشيوعية» والعدو الحديث «التنظيمات الإسلامية الأصولية»، والحقيقة أنّ استمرار الانتشار الأميركي لا يمكنه العيش دون وجود عدو، ومن السهولة بمكان على مراكز الدراسات والتخطيط إيجاد عدو واستثماره عبر إدارته والتحكم بسلوكه في المكان المستهدف، هي من أوجدت «القاعدة» ومتفرّعاتها، ومن جديد أوجدت عدواً لعالم العرب والأعراب إيران وأقنعت هؤلاء بخطورة التطوّر العلمي والعسكري لهذه الدولة على مستقبلهم ووجودهم رغم إعلان القيادة الإيرانية عن توجهاتها وأهدافها بكلّ صراحة ووضوح.
نجحت الولايات المتحدة في فرض الحصار على عديد من دول العالم، ليس لوحدها وإنما بمشاركة الحلفاء رغم تضرّر مصالحهم، ورغم انخفاض المؤشر الاقتصادي الأميركي ولجوء الإدارة إلى فرض مشاركة الدول الحليفة لزيادة مساهماتها في عمليات الولايات المتحدة العسكرية عبر العالم، والأهمّ فرض بدل حماية على العديد من الأنظمة العربية ومنها أجور تحرير الكويت، وحماية الخليج من «العدو الإيراني»، والتلويح بـ «البعبع الاسلاموي»، إلا أنّ ذلك لا يمنع من التساؤل حول استمرار هذه القدرة مستقبلاً بعد ظهور بوادر تمرّد في صفوف قادة من حلف الناتو التي بدأت تبحث عن مصالح بلدانها في حال التقيّد بالقرارات الأميركية التي تفرض مقاطعة النظام الإيراني ومحاصرته اقتصادياً وسياسياً لا لأنه يهدّد الخليج فعلاً، ولا لأنه سيحصل على قنبلته النووية بل لأنه يهدّد المشروع الصهيوني بشكل جدي رغم تشكيك البعض بجدية هذا التهديد وربما اتهام إيران بمحاولة التوسع والدعوة إلى «تشييع» قطاعات من شعوب المنطقة، وهي عملية دعائية وهمية، فالأنظمة الأعرابية الخليجية تعمل من تحت الطاولة على حماية المشروع الصهيوني واستمرارية وجوده، بل والتعاقد معه سراً على تهويد الأراضي المحتلة وإنجاز صفقة غير مسبوقة في تعديل حدود المنطقة وعمليات تبادل سكاني إلخ… على طريق إنهاء القضية الفلسطينية.
السلوك الإيراني وتدخله عن طريق دعم الفصائل الفلسطينية المسلحة، ودعم الدول المحيطة التي تتبنّى ثقافة المقاومة، ودفاعه عن شرائح في المجتمعات الأعرابية في كلّ من السعودية والبحرين، واتهامه بالتدخل في الصراع الداخلي اليمني، يشكل جرائم موصوفه بنظر الإدارة الأميركية، بل بنظر قادة المشروع الاستيطاني الصهيوني والذي بدأت أصوات عديدة في قيادات الأعراب تقول بشرعية وجوده، الشرعية التي يطعن فيها علماء وقادة يهود وغربيين ومنهم علماء في التاريخ والآثار وهم أعلنوا نتائج أبحاثهم… لا أساس بالمطلق لما يدّعيه قادة الصهاينة ومن يدعمهم في عالم الغرب، بل تشير دراسات عديدة، إلى اقتراب نهاية المشروع مترافقة بانهيار العملة الورقية الكاذبة ولا رصيد لها «الدولار» ومعه ينفرط عقد الولايات المتحدة وتعلن أغلب الولايات استقلالها وخروجها من نفوذ الصهيونية العالمية عدا ولاية نيويورك التي تعتبر ركيزة يهودية ومركز الثقل اليهودي في أميركا.
التلويح الأوروبي بالخروج على القيادة الأميركية والامتناع عن تطبيق العقوبات واستمرار التعامل مع الدولة الإيرانية، والاستثمار في مشاريعها، يعتبر جرس الإنذار الواجب الانتباه له، ويمكن النظر إليه على أنه اللبنة الأولى التي تنسحب من أساس جدار كبير يمكن أن يتداعى بعدها، ليس ذلك فحسب بل لأنّ العقوبات الأميركية ليست صادرة عن مجلس الأمن وضمن شبه إجماع، الأهمّ أنّ الدول الكبرى الصين وروسيا ومعهما بعض دول أميركا الجنوبية، وربما بعض دول أوروبا الغربية فرنسا وألمانيا سبق وأعلنت أنّ العقوبات غير شرعية ولن تلتزم بها، فما الذي يمكن للإدارة الأميركية أن تفعله إزاء إجماع شبه دولي وما سيكون تأثير العقوبات الأميركية حيث لا تشكل صادرات الولايات المتحدة أية أهمية بالنسبة للنظام الإيراني وحتى السوري، طالما تتوفر البدائل على تنوّعها، أوروبية وروسية وصينية.
القواعد العسكرية الأميركية وانتشارها الواسع وحجمها يدفع بالإدارة الأميركية إلى الشعور بالغطرسة والفوقية، وهو شعور خادع يقود الإدارة إلى متاهة قاتلة بين هذا الشعور وممارسة الأخلاق والإنسانية التي تحملها راية وتمارس عكسها تماماً، للمثال: اعتقال عميل أميركي في مصر حالة خرق لحقوق الإنسان من الحجم الكبير، في الوقت الذي يتمّ اعتقال الآلاف ومنهم أحداث ونساء في فلسطين حالة دفاع عن النفس، أكثر من ذلك ما يحصل في البحرين أمر لا تسمع به ولا تراه الرقابة على حقوق الإنسان الأميركية في دهاليز الخارجية أو المنظمات الأهلية، ولا المجازر في اليمن، ولا ما فعلته القاذفات الأميركية في مدينة الرقة وآلاف الضحايا المدنيين عدا عن تدمير البنية التحتية بمليارات الدولارات، من أبنية وجسور ومحطات كهرباء ومياه إضافة إلى المطارات، الإنسانية في الفهم الأميركي هي كلّ سلوك يخدم المصالح الأميركية والصهيونية بضمنها، وغير الإنسانية هي المواقف التي لا توافق هذا المفهوم، بالأحرى المواقف التي تأخذ بالاعتبار مصالح الشعوب والدول الصغيرة هي خرق لـ «حقوق الإنسان»، بالأحرى خروج على المصالح الأميركية وشق عصا الطاعة على السيد الذي اعتاد على سماع كلمة… سمعاً وطاعة.
أن تنجح الإدارة الأميركية الحالية بقيادة سمسار المال والعقارات في فرض رأيها وسلوكها على دول العالم أمر في غاية الغرابة، بل يشكل موقفاً في غاية الإذلال، وانسياقاً أعمى للموقف الأميركي الذي لا يمكنه أن يكون إنسانياً أو أخلاقياً، لأنّ دولة قامت على القتل والاستيطان وارتكاب جرائم الإبادة الجماعية لا يمكنها أن تكون أو تنسجم مع عالم الأخلاق والإنسانية، والمأثور الثابت أنّ الطبع يغلب التطبع.