بوتين والأولوية السورية
ناصر قنديل
– خلال ثلاث سنوات تقارب من نهايتها على التموضع الروسي في الحرب على سورية، تعيش روسيا مكانة خاصة لحماية وتحصين معاني ونتائج هذا التموضع الناتج عن اتخاذ روسيا قرار المبادرة الاستراتيجية الأولى من نوعها في تاريخها، بما في ذلك أيام الاتحاد السوفياتي، بالتدخل عسكرياً بقواتها المسلحة في حرب خارج حدودها، وفي منطقة عمل أميركية تقليدية، تحدّها تركيا الأطلسية من جهة و«إسرائيل» من جهة ثانية، والوجود الأميركي من جهة ثالثة، وقد سبق لموسكو أن رمت بثقلها لمنع تدخل عسكري أميركي فيها قبل عامين، رغم أن الأساطيل الأميركية وصلت إلى قبالة السواحل السورية. وفي ظل كلام أميركي منتظم ومتتابع وعالي السقوف حول مستقبل الوضع في سورية وخصوصاً مستقبل الرئيس السوري، الذي جاءت روسيا بقواتها لدعمه، ما يمنح المبادرة الروسية العسكرية مكانة نوعية في الحسابات الاستراتيجية ليس أقلها الجهوزية لفرض أمر واقع بالقوة على الدولة العظمى المقابلة التي تمثلها أميركا.
– يغيب عن بال الكثير من المتابعين والمحللين التخيل لحجم ونوع الحسابات والتحالفات التي أقامتها القيادة الروسية قبل اتخاذ هذا القرار، ومثلها التي تتخذها بالتتابع مع مساره وتقدم هذا المسار. فيخطئ من يظن أننا أمام مجرد ملف من ملفات الحركة الروسية، بقدر ما نحن أمام الملف الاستراتيجي الأول على طاولة الرئيس الروسي، بحيث يتوقّف على ضمان بلوغه نهاياته المنشودة، رسم المكانة والدور اللذين أرداهما الرئيس الروسي لبلاده في اللعبة الدولية، وحسابات القوة فيها، والنهاية المنشودة هي استرداد الاعتراف الغربي والعربي بشرعية حكم الرئيس السوري بشار الأسد، وإزالة العقوبات التي فرضت على الدولة السورية.
– مفردات من نوع الحل السياسي في سورية ومكافحة الإرهاب وعودة النازحين وإعادة الإعمار، تحتلّ مكانتها في سياق الحركة الروسية لأعمية كل منها بذاتها في ترجمة المسار الذي ترغبه روسيا لسورية، لكنها قبل ذلك مفردات يخضع استحضارها ومنح كل منها مكانة متقدمة في الخطاب الروسي حول سورية تعبيراً عن حسابات دقيقة لكيفية تثمير المتغيرات الدولية والإقليمية الناجمة في أغلبها عن تداعيات الوضع السورية وتوظيفها في خدمة النهاية المنشودة، المتصلة بالمفهوم الروسي للتسوية والحل السياسي، وعنوانهما شرعية الدولة السورية وسيادتها ووحدتها برئاسة الرئيس بشار الأسد.
– خلال سنوات ثلاث يخطئ من يظن أن ثمة مصالح روسية تحضر على طاولة المباحثات التي يجريها القادة الروس حول الوضع الدولي لا تشكل سورية مفتاحها. ويخطئ من يظن أن أي بحث عن سورية يحكمه فهم للمصلحة الروسية ليس عنوانه شرعية حكم الرئيس بشار الأسد، ومَن يتابع المسارات التي تسلكها المواقف الدولية والإقليمية حول سورية، سيكتشف بسهولة مقياساً للحكم على النجاح والفشل الروسيين، عنوانه درجة تغيّر المواقف من هذه المفردة، حكم الرئيس بشار الأسد، والتسليم بكونه حقيقة لا تفيد المكابرة في إنكارها، ولا مصلحة بالممانعة بوجهها، وقد تفاقمت المشكلات التي تضغط على العالم كله بسبب ما مضى من هذه المكابرة وهذا الإنكار، ليس تفشي الإرهاب ومشكلة النازحين إلا بعضاً من مفرداتها.
– يتعاطى البعض بخفة مع هيكلية القرار الروسي بالتموضع العسكري الروسي في سورية، ولا ينظر إليها كنقلة استراتيجية على درجة عالية من الخطورة، والمخاطرة بمواجهة مباشرة أو غير مباشرة مع واشنطن، ويتجاهل هؤلاء المسارات المتعرّجة المقلقة للعلاقة الروسية التركية بحاصل هذه الخطوة، ولاحقاً العلاقة الروسية السعودية، والعلاقة الروسية الإسرائيلية، ودائماً العلاقات الروسية بكل من واشنطن والعواصم الأوروبية. والتجاهل الأهم هو حجم التوافق الاستراتيجي الذي أبرمته روسيا مع إيران وسورية والمقاومة التي يقودها حزب الله لمواجهة كل هذه الفرضيات، وعلى رأسها التفاهم على أن أحداً لن يترك أحداً في هذه المسيرة حتى يتحقق النصر المشترك الجامع ويحفظ الجميع الجميع في المنعطفات التي سيتعرّض كل فريق لضغوط وإغراءات كافية لإغرائه بالخروج من الحلف أو ترهيبه من مخاطر الاستمرار فيه.
– أمام النجاحات الروسية الباهرة في بلوغ مراحل متقدّمة من المسار المرسوم، والتي يطل قريباً بعض جديد من ملامحها، مع القمة الروسية التركية الألمانية الفرنسية، يتوهّم كثيرون أن العلاقة الروسية الإيرانية معروضة على الطاولة للمساومة، ويتوهّم كثيرون أن روسيا مضطربة وقلقة وتريد النجاة برأسها أمام العقوبات الأميركية التي استهدفت روسيا يوم كانت تركيا رأس الحربة بوجهها في سورية، وهي اليوم تستهدف أوروبا وتركيا حليفتي أميركا السابقتين في سورية. وكل مَن هو معنيّ في موسكو بالمعادلات الدولية يؤكد أن قرار واشنطن الإستراتيجي بالخروج من سورية قد حُسِم، وأن الحلف الذي تشكل للحرب على سورية قد تفكك، وأن الورقة الروسية الرابحة هي أن الحلف الذي قادته لنصرة سورية غير قابل للتفكك، وأن المضي قدماً بسلاسة للاستثمار على نتائج الانتصارات المحققة، لا يعني التفريط بهذه الورقة الرابحة، بل صيانتها لكسب المزيد من الحلفاء بقوة الصدقية التي أظهرتها روسيا في الحرب السورية وتالياً في حلفها مع إيران أنها لا تترك حلفاءها ولا تبيع ولا تشتري على ظهورهم. والقمة التي انتهت قبل أيام حول بحر قزوين بقيادة روسية إيرانية لا تزال طازجة، وظهور التغييرات التركية والباكستانية، التي كانت حلماً تاريخياً لروسيا تكتمل، ليصير القوس الباكستاني الإيراني التركي لربط روسيا بالصين في المياه الدافئة، والذي حلم به القيصر نيقولاي الثاني قبل قرنين تقريباً، حقيقة، بعدما كان الحلف الذي أقامته واشنطن بين إيران وباكستان وتركيا وبغداد قبل نصف قرن أهم جدار لمواجهة الحركة الروسية أيام الاتحاد السوفياتي.
– إذا كان صحيحاً أن العالم يتغير من سورية، كما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل سنوات، فإن الصحيح أيضاً أن روسيا بوتين قررت لعب الدور القيادي في تغيير العالم من البوابة السورية… وهي تنجح.