سورية تُحيي الدور الروسي في البحر المتوسط
د. رفيق إبراهيم
للمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989، تعود روسيا إلى البحر المتوسط بقوة، تجمع بين «دبلوماسية الأساطيل» والتهديد العلني بحرب فعلية.. فتطلق أضخم مناورات لقواها البحرية والجوية الفضائية في عرض قوة هائل، تردّ به على تهديدات أميركية – غربية إسرائيلية بشن عدوان كبير على سورية إذا هاجمت دولتها «منطقة إدلب»، فتنتصب هذه القوة الروسية امام حشد غير مألوف لأساطيل أميركية تعربد في مياهَيْ المتوسط والخليج بذريعة أن الرئيس بشار الأسد يريد استعمال سلاح كيماوي في حرب إدلب التي لم تبدأ بعد.
لذلك يشكل هذه العرض العسكري الروسي الضخم إصراراً على إجهاض أي تدبير أميركي عسكري أو سياسي يريد النيل من الانتصار السوري على مستوى منع الجيش السوري من تحرير إدلب أو بأساليب مختلفة تراوح بين إقفال الحدود السورية العراقية بطول 224 كيلومتراً بين البوكمال والتنف السوريتين مقابل خط القائم والوليد العراقيين، مع إنعاش العمليات الانتحارية لداعش، انطلاقاً من مناطق السيطرة الأميركية قرب قاعدة التنف.
هذا يكشف فوراً أن الأميركيين يريدون عرقلة النصر السوري الكبير بثلاث وسائل: منعُه من تحرير منطقة إدلب بذرائع مفبركة بما فيها تهديده بعدوان غربي كبير عليه. والثانية: إقفالُ الحدود العراقية السورية ومنع الأردن من فتح معابره. والثالثة: رعاية عمليات تفجير وحرب عصابات للإرهاب الداعشي في سورية والعراق.
لكن هذه الآليات لن تنتج نصراً للمهزومين. قد تتمكن بأقصى الأحوال من تأخير تحرير إدلب لبعض الوقت فقط، أي لحين استكمال المشاورات بين سورية وإيران وروسيا من جهة، وإيران وروسيا وتركيا من جهة ثانية.
إلا أن لدمشق أساليبها وهي التي بذلت ما لديها منذ سنين سبع في دحر أعنف هجوم لم يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية، نحو مئة وخمسين ألف إرهابي ونيّف اجتاحوا مناطقها بإشراف أميركي تركي سعودي إسرائيلي.. وهزمتهم.
فإذا كان هذا النصر السوري أتاح للروس العودة إلى انتزاع جزء من القرار الدولي الذي يستملكه الأميركيون منذ 1990 بشكل حصري كامل. فلماذا لا ينسحب أيضاً على الحركة في البحار المؤمَّمة من قبل الأساطيل الأميركية؟ وبما أن التهديدات الأميركية بضرب سورية تعتمد أساساً على بوارج وأساطيل منتشرة في بحري المتوسط والخليج وقواعد طيران عسكرية في الأردن وقبرص والسعودية وقطر والإمارات، كان لا بدّ من مجابهة هذا الخطر بمثيل يفوقه قدرة، وله إمكانية إنتاج توازن استراتيجي بحري يُقصي أحادية الهيمنة الأميركية على البحار، بنظرية التوازن الرادع التي تقوم على أننا نملك ما تهدّدون به وبوسعنا استعماله للردع والحرب أيضاً..
للتنبيه فقط، فإن روسيا ظلت تمتلك إمكانات الاتحاد السوفياتي العسكرية، لكنها فقدت العلاقات السياسية مع حلفائه السياسيين الذين كانوا يوفرون لقواته إمكانيات التموضع الاستراتيجي في وجه الاستملاك الأميركي للعالم.
خسرت أوروبا الشرقية وبعض بلدان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وأميركا الجنوبية التي انتقلت إلى المحور الأميركي.. وترجمة هذه الخسارة أنه لم يعُد للأسطول الروسي قواعد يُعسكر فيها في مختلف بحار ومحيطات العالم، من بحر الصين إلى محيطات الأطلسي والهندي والهادئ وبحار الأحمر والمتوسط والخليج والبلطيق.. لم يتبق لروسيا إلا منفذ صغير على بحر آزوف كانت تتقاسمه مع أوكرانيا التي انتقلت بدورها إلى المحور الأميركي.. هذا البحر كان يصل بالبحر الأسود عبوراً من بحري مرمرة وإيجه نحو المتوسط.. أي أنه شكل مجرد عبور مراقب بالعيون الأميركية الأطلسية، لكن أحداً لا يستطيع إقفاله لارتباطه بمعاهدات دولية تؤكد حق الدول باجتيازه.
لقد ضعفت قيمة المراقبة التركية التاريخية لهذا المعبر، لأنه أصبح بوسع البنتاغون الأميركية معرفة عدد ونوعية البوارج العابرة من خلال نظام مراقبة فضائي معقد يكشف حتى مرور الذبابة. وهي ميزة يمتلكها الروس أيضاً وكثير من الدول الكبرى. وهذا يفترض حيازة قوى رادعة أو كاسرة للتوازن. روسيا تمتلكها، لكنها لا تجد سبيلاً لاستعمالها في كسر الهيمنة الغربية بسبب تقلص حلفائها ما فرض عليها الانكماش الداخلي.
في إطار هذا المفهوم، التقت الرغبتان السورية والروسية في توفير مساحات كافية، يشرف بعضها على ساحل شرق المتوسط مباشرة، ويلعب قسم منها بعيد نسبياً عن الساحل، دور الداعم للدفاع الداخلي والبحري. الأمر الذي وفر للقوات البحرية والفضائية الروسية مواقع هامة ودائمة في سورية تستطيع من خلالها المشاركة بتوازن القوة الرادعة في إدارة البحر المتوسط وكسر أحادية هيمنة الأساطيل الأميركية والغربية والإسرائيلية عليه.
وكان حزب الله نجح في 2006 بإبعاد البوارج الإسرائيلية عن سواحل لبنان شرق المتوسط أيضاً، عندما نجح مجاهدوه بإصابة بارجة إسرائيلية كانت تختال كعادتها أمام سواحل جنوب البلاد، ما أنتج حذراً إسرائيلياً من العبور البحري قبالة لبنان.
لا ينفي هذا الكلام أن الجيوبوليتيك الأميركي يهيمن على معظم البحر المتوسط من حدود فلسطين المحتلة البحرية إلى مصر وشمال أفريقيا عبوراً إلى شاطئه المقابل في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا إلى سواحل بحر الأدرياتيك المتفرّع من المتوسط فاليونان وقبرص وتركيا التي توجد فيها قاعدة أنجيرليك الأطلسية التي تحتوي أسلحة تقليدية ونووية أما الاستثناء فهو سورية التي فتحت سواحلها للروس فقط، ولبنان الذي تمكن حزب الله بقتاله في الثمانينيات في وجه كل التحالفات الدولية والإسرائيلية من إجهاض أي تموضع أميركي او أوروبي على أراضيه وسواحله.
هنا تكمن أهمية حزب الله وسورية في العودة الروسية إلى العالم. تحقيقاً لإعادة ولادة توازن تستفيد منه الدول الصغرى، وتنجو بواسطته من الجنون الأميركي الاقتصادي والعسكري.
قد يقول قائل: إن واشنطن تسيطر على سبعين في المئة من البحر المتوسط فكيف بإمكان موسكو إعادة التوازن؟
هناك أربعة عناصر تؤمن التوازن:
الأول أن روسيا قوة عظمى لديها أسلحة متفوقة لها ميزة ردع الطامعين والمهيمنين.
الثاني أنها تتحرك من خط عبور دولي تراقب تركيا قسماً منه، لكنها لا تملك الحق بمنع أي طرف من استعماله.
الثالث يتعلق بحيازة موسكو قواعد ضخمة في سواحل سورية المطلة على شرق المتوسط وبعض أنحائها الداخلية. وهي مراكز هامة لإنعاش دور روسي دائم يحوز على قدرات عسكرية تتجدد دائماً، إما بالثقل الجوي المباشر أو بخط العبور عبر بحار أزوف الأسود مرمرة إيجه المتوسط.
الرابع، إذ تمنح كل هذه المميزات الروس دوراً في الإشراف الدائم على المتوسط من خلال قواعدهم المنتشرة على الساحل السوري. فيصبح الانتشار العسكري في مياهه محدود الأثر في عمليات إسقاط الدولة السورية المستمرة منذ عقد تقريباً، ولا يحول دون توسع موسكو في منطقة الشرق الأوسط.
لعل هذه المقاربة تشرح أهميات الصراع الدولي الإقليمي على منطقة إدلب التي أصبحت عنواناً للصراع الأميركي الروسي، انطلاقاً من إصرار الدولة السورية على أولوية تحريرها. ما يعني نسفاً لكل محاولات التسوية التركية الغربية لإرجاء موعد الهجوم السوري.. وإلا كيف يمكن تحليل هذا العناد الأميركي الغربي الإسرائيلي السعودي حول ضرورة عدم تحرير إدلب، فيخترعون اهتماماً بالمدنيين وهم يقتلونهم بالآلاف في فلسطين واليمن وسورية والعراق وليبيا وأفغانستان. هل نسي هؤلاء كم من المدنيين السوريين والعراقيين أبادتهم الغارات الأميركية.
هذا يؤكد أن المناورات البحرية الروسية هي أكثر من رسائل وأعمق من دبلوماسية الأساطيل التي كان الأسطول البريطاني يستعملها في القرن التاسع عشر بإطلاق مدافعه في البحر قبالة دول ضعيفة كان يخيفها لتتقد معاهدات ولاء مع إمبراطوريته.
لذلك يمكن الاستنتاج أن سورية ذاهبة نحو نصر مبين في إدلب بالتعاون مع حلفائها الروسي والإيراني وحزب الله بمواكبة صعود روسي دولي استفاد من الحرب السورية متمكناً بالتعاون مع دمشق الأسد من اقتطاع حصة وازنة من البحر الأبيض المتوسط ملتقى قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا والذي لم يعد بحراً أميركياً صرفاً كما كانت حاله في العقدين الأخيرين.