قمة طهران الثلاثية «إدلبية» فقط أم… أكثر؟
د. وفيق إبراهيم
المباحثات الثلاثية بين رؤساء روسيا وإيران وتركيا في طهران ليست مجرد حدث بروتوكولي تقليدي لارتباطها بمسألتين: تحرير منطقة إدلب ومحاولة إنتاج نظام إقليمي يشكلُ بديلاً من الهيمنة الأميركية و»النظام العربي» البائد في آن معاً.
يبدو أن نجاح هذا الثلاثي في تأمين حلٍ للقضاء على الإرهاب في إدلب من شأنه تسهيل إنتاج نظام تحالفي في الشرق الأوسط يغيب عنه العرب لأسباب بنيوية خاصة بهم.
لا بد هنا من الإشارة الى تمتع العرب بميزتين وفقدانهم ميزة واحدة: إنهم الكتلة الأكبر على المستوى الديموغرافي السكاني في الشرق الأوسط والأقوى اقتصادياً لاحتواء مناطقهم على موارد الطاقة من نفط وغاز، لكنهم يفتقدون للتضامن الداخلي على سياسات واحدة بسبب الهيمنة الأميركية الكاملة على أنظمتهم السياسية المتهالكة.
فهناك فراغ استراتيجي كبير في الشرق الأوسط منذ انسحاب «مصر السادات» من الصراع العربي الإسرائيلي في 1979 وتمسكها بمعاهدة كمب ديفيد تؤدي فيها دور الحليف الكبير للكيان الإسرائيلي والسياسات الأميركية والخليج.
أعقب هذه الأمر انهيار العراق بسياسات أميركية سعودية بدأت في الثمانينيات بتمويل حرب صدام على إيران الذي ارتكب «غلطة عمره السياسي»، بغزو الكويت مقدّماً للأميركيين فرصة احتلال العراق وتدميره عسكرياً وتفتيته اجتماعياً على أسس مذهبية وعرقية.
ولمواصلة تدمير آخر ما تبقى من النظام العربي العام فتحت السعودية وقطر وتركيا بإشراف أميركي – إسرائيلي حرباً إرهابية على سورية منذ 2011 أدّت الى تدمير مناطقها، لكن الدولة نجحت في ضرب المشروع الإرهابي، لكن دورها السياسي والإقليمي احتجب بشكل كامل لانهماكها في أزمتها الداخلية.
السعودية ومعها دول الخليج عجزت عن تعبئة هذا «الفراغ» مواصلين أداء دور «الآليات» ذات الوظائف الأميركية الحصرية، مسهمين بذلك بهذا الانهيار العربي الكبير الذي أدرك حدود تأسيس علاقات تحالفية وطبيعية مع العدو الإسرائيلي.
وما تبقى من بلدان عربية فليست مؤهلة لأدوار قيادية لنقص في إمكاناتها الاقتصادية والجغرافية والتاريخية، لقد جرى الإمساك بالعرب كلهم عندما ضعضعت واشنطن البلدان الأساسية في المشرق القائد التاريخي للشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
تلتئم قمة طهران إذاً وسط عجز عربي عن مواكبتها أو رفضها مكتفياً بمواقف إعلامية لا قيمة فعلية لها في أسواق السياسة.
فماذا تريد إذاً دول مؤتمر طهران؟
إيران البلد المضيف تعتقد أن معركة إدلب هي مقدمة ردها على الحصار الأميركي المضروب عليها والذي يهدّد بهجوم كبير قد يستهدفها ويمنع استيراد النفط منها للتعجيل بوتيرة انهيارها الاقتصادي الداخلي.
لذلك تشكل معركة إدلب فرصة كبيرة لها لتطويق النفوذ الأميركي ومنعه من استهداف حلفائها في سورية ولبنان والعراق واليمن.
إن هذه المعطيات تدفع الى الاعتقاد بأن طهران لن توفر إمكانية تملكها على الصعد العسكرية والسياسية وإلا وتضعها في خدمة تحرير إدلب. لأنها تعرف أن مرحلة ما بعد إدلب تَتَّسِمُ بانكشاف الاحتلال الأميركي لشرق الفرات، حيث تصبح القوات الأميركية في مواجهة السوريين والروس والإيرانيين بشكل مباشر، كما تتميز بانتقال الصراع التركي مع الكرد وحلفائهم الأميركيين الى درجات أعلى من التناقض وصولاً الى الاحتراب أيضاً.
هذا بالإضافة الى أن طهران تعرف أيضاً أن تحرير سورية يعني تشكيل قوة اساسية ورئيسية متحالفة معها في المشرق العربي تفتح لها طرق إمداد بالتنسيق مع العراق ما يؤدي الى فشل الحرب الأميركية عليها.
هذه هي المعطيات الإيرانية التي ترى أيضاً أن تحرير إدلب يدفع الى الاعتراف بها قوة إقليمية وازنة، وربما أساسية ويقلص من قدرات أعدائها على استهدافها.
ماذا عن تركيا؟
يشعر المتابعون أن أردوغان يريد تحقيق كامل طموحاته من خلال عملية إدلب. وتبدأ من ضرب المشروع الكردي المُهدّد الفعلي لبلاده والمغطى بدعم أميركي مباشر ما يجعل من استهدافه عسكرياً مسألة صعبة جداً.
لذلك تلعب أنقرة في الملعب الروسي الإيراني للتضييق على السياسة الأميركية في سورية ما يؤدي برأيها إلى تخلي واشنطن عن مشاريعها «الكردية».
وتطمح تركيا الى دور في لجنة صياغة الدستور الجديد لسورية ومساهمة شركائها في إعادة الإعمار ودمج كل التنظيمات التركمانية السورية في الجيش السوري والسماح للتركمان والاخوان بالمشاركة في المؤسسات السياسية السورية. وهذا يعني أنها تريد من قمة طهران منحها ما عجزت عنه في حربها الإرهابية على سورية منذ 2012 وحتى الآن، لكنها في الوقت نفسه مستعدة لتنازلات على قاعدة مشاركتها في نظام إقليمي مع روسيا وإيران يعاود فتح أبواب سورية والعراق أمامها.
ماذا الآن عن روسيا؟
إنها القوة المحورية التي تبذل جهوداً جبارة لفرض استقرار سوري على قاعدة انتصارها في الحرب.
وهذا معناه تموضع موسكو في قلب البحر المتوسط والمشرق العربي، وتفسيره أن واشنطن تصبح مرغمة على إجراء تفاهمات عميقة حول الدور الروسي الإقليمي وتالياً الدولي. ألا تفرض هذه الأهميات على الرئيس بوتين التوصل الى تفاهمات مع مثيله التركي أردوغان تحت سقف وحيد وهو أن تحرير إدلب على علاقة جيوبوليتيكية واستراتيجية بالدور الروسي المقبل. وهذا ما لا تقبل موسكو المساومة عليه وقد تصل إلى حدود اعتبار التلكؤ التركي في سحب التنظيمات الموالية لها من إدلب «عملاً مشبوهاً» يخدم الرفض الأميركي لهذا التحرير فتلجأ الى أساليب أخرى. منها التخلي عن لجم الطموح الكردي ويبدو أن موسكو وافقت مع انقرة على الضغط لتأمين انسحاب قوات كردية من تل رفعت بالتوازي مع عملية تحرير إدلب.
هذه هي المعطيات التي تحيط بقمة طهران أخذاً بعين الاعتبار أن الأتراك أسسوا من الموالين لهم في إدلب «الجبهة الوطنية للتحرير» متمكنين من جذب ست مجموعات من «جبهة النصرة» أعيد ضمهم الى تنظيم «حراس الدين» الموالي لهم، وتواصل تفكيك مجموعات الجولاني للإبقاء على نفوذها القوي في إدلب الى جانب الدورين المرتقبين للدولة السورية والروس.
توحي هذه المؤشرات بأن مؤتمر طهران ذاهب الى تنسيق إقليمي بين دوله في حالة التوافق الكامل على طريقة تحرير إدلب، وهو دور يلتهم من دائرة النفوذ الأميركي الذي يتغطّى حالياً بالغارات الإسرائيلية على سورية في محاولة لإرباك حلف طهران الثلاثي وعرقلة تحرير إدلب.
لكن ما ينقص تطوّر هذا الحلف هو غياب الدور العربي فلا إمكانية لاستمرار نظام إقليمي لا يضمّ دولاً عربية محورية على غرار مصر وسورية والعراق. والمعتقد أن سورية المتحالفة مع روسيا هي المؤهلة لاستكمال حلف طهران بما يؤدي إلى تمتينه لمصلحة شعوب المنطقة واستقرارها في مواجهة الهيمنة الأميركية المتسربلة باللبوس السعودي الإسرائيلي مع بعض الآليات العربية الأخرى.
هذا بالاضافة الى أن السياسة التركية شديدة الولاء في العمق للحلف الأطلسي. هذا يعني أنها قابلة للتخلي عن حلف طهران في أي وقت يُحققُ لها الأميركيون والإسرائيليون مطالبها.
فتذهب الأمور نحو بناء نظام إقليمي يضم تنسيقاً سورياً عراقياً مشتركاً مع إيران وروسيا قابلاً للاتفاق مع الأتراك في بعض المفاصل. وهذا أفضل الممكن في عصر أردوغان وسياساته الانتهازية.