لماذا الاحتراب الأميركي في الشرق الأوسط؟
د. وفيق إبراهيم
الغليان الاحترابي في الشرق الأوسط يُشبه مراحل التحول بين مرحلة جيوبوليتيكية مهزومة لم تستسلم بعد وأخرى منتصرة تريد الاستثمار السياسي.
فبعد هزيمة العثمانيين والمانيا النازية واليابان في مطلع القرن العشرين وتقهقر فرنسا وبريطانيا حصل تبديل في مواقع المسيطرين ترأسته الولايات المتحدة الأميركية مقابل نفوذ سوفياتي وازن.
دام هذا الوضع حتى انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989 فهيمن الأميركيون بمفردهم على العالم من دون منازع فارضين قوتهم احتلالاً وقتلاً وسفكاً في إطار تهميش كل المؤسسات الدولية وإذعان الدول والشعوب.
ما بدل من هذه المعادلة هو انهيار الحرب الأميركية على سورية بواسطة الإرهاب والإقليم والاحتلال المباشر وتوسّع النفوذ الإيراني من «هزارة» افغانستان الى لبنان عبوراً من أجزاء باكستانية نحو العراق وسورية ولبنان مع القسم المتحرّر من اليمن السعيد.
ما أنتج محوراً جديداً منتصراً هو المحور الروسي السوري الإيراني الذي التحق به الصينيون مؤخراً والقسم الأكبر من العراق ولبنان.
لم يسكت المحور الأميركي معلناً فرض حصار قاسٍ على إيران بمعونة الخليج، معترفاً بأن الدولة السورية انتصرت عسكرياً، لكنه «لن يسمح لها بالانتصار السياسي» وكان يعني بذلك أيضاً روسيا ومحورها.
الذرائع التي عرضها الفريق الأميركي مضحكة لسطحيتها المفرطة، لكنه لا يأبه بانكشاف أهدافه ومراميه لاعتياده على مفهوم «القوة الهمجية التي تقنع» بالدم.
لذلك تقول واشنطن والرياض و»إسرائيل» ان طهران تستثمر في الإرهاب وتدعم منظماته على منوال الحشد الشعبي وأنصار الله وحزب الله.
وتطلق استغاثات مع فريقها الأوروبي والخليجي والإسرائيلي حول وجود نية لدى الجيش العربي السوري باستعمال أسلحة كيماوية في إدلب، ولأن هذه الحجة لا تكفي فذهبوا نحو منحى آخر، زعموا أن هناك ثلاثة ملايين مدني في منطقة إدلب معرضون للإبادة، مستنتجين ضرورة إلغاء الهجوم على إدلب مع التوجه الى المفاوضات السياسية مع المعارضة في مؤتمرات جنيف، فبذلك حسب رأيهم تعود إدلب الى الدولة ولم يسألهم أحد كيف بإمكانهم إقناع منظمة النصرة القاعدة والحزب التركستاني الداعشي الذين يملكون نحو خمسين ألف إرهابي مقاتل في إدلب بإلقاء السلاح والاقتناع بمفهوم الدولة الوطنية من خلال المؤتمرات وهم لا يؤمنون إلا بنظام الخلافة وولي الأمر.
لم يكتفِ الأميركيون بالاعتراض السياسي على مشروع تحرير إدلب فأعلنوا استعدادهم لمعركة كبيرة من أجل إدلب وتلاهم اصدقاؤهم الفرنسيون والبريطانيون والإسرائيليون والخليجيون. هؤلاء بدورهم لم يخجلوا من الجهر باستعدادهم لمهاجمة سورية إذا أصرّت على تحرير منطقة إدلب السورية من الإرهاب الذي يحتلها.
تركيا بدورها استنكرت الضعف الأميركي الغربي الذي يكتفي حسب اردوغان بإعلان استعداده مهاجمة سورية إذا استعملت الكيماوي. فالأتراك يريدون من الأميركيين مهاجمة الجيش السوري والطيران الروسي والحلفاء في أي وقت يتقدمون نحو إدلب هذا ما دفع الى السؤال عن أسباب هذا الاحتراب الأميركي التركي الاوروبي- الخليجي الإسرائيلي؟
لماذا حصار إيران الى حدود خنقها بقطع كامل لعلاقات نظامها الاقتصادي النفطي والغذائي والصناعي مع الخارج؟ ولماذا منع تحرير إدلب الى حدود الإعلان عن الاستعداد لحرب كاملة قد تتحول حرباً عالمية؟
إيرانياً، فأسباب الأميركيين واضحة، نظام الجمهورية الإسلامية أسس نفوذاً وتحالفات قوية في قلب الجيوبوليتيك الأميركي ومتاخماً لإمبراطورياته النفطية في الخليج ومنتزعاً حصة وازنة من عالم إسلامي لا يزال يخضع للنفوذ الأميركي منذ 1945.
ولإيران أهمية أخرى، فهي التي مهّدت لعودة الروس الى سورية وتطوّق السعودية رئة أميركا النفطية من اليمن والعراق، ومياه الخليج بسواحلها المقابلة وتزعجها في البحرين وطردتها من العراق وسورية هذا يُمثلُ خطراً كبيراً على هيمنة واشنطن على المنطقة.
لذلك تريد واشنطن الإمساك بإيران لأهميتها الاقتصادية في الغاز والنفط وتأثيرها في عمليات إعادة الإعمار في سورية والعراق ولاحقاً اليمن وضرورة إلغاء نفوذها السياسي في الشرق الأوسط، خصوصاً الخليج حيث الثروات التي لا تنضب.
وكانت السياسة الإيرانية العميقة تعمل على جذب الاوروبيين اليها ونجحت، لكن الأميركيين تنبهوا مهددين الأوروبيين بقطع علاقاتهم الاقتصادية معهم اذا لم يتوقفوا عن العلاقات الاقتصادية مع طهران.
لذلك يبدو أن الأميركيين والإسرائيليين والخليجيين متحدون في حصار إيران الى درجة الاشتراك في حرب ضدها. والدليل موجود في القصف الصاروخي الذي وجّهه الحرس الثوري الإيراني لمجموعة من الكرد الإيرانيين الذين تستخدمهم المخابرات الأميركية ليهاجموا اهدافاً إيرانية انطلاقاً من الحدود العراقية، أليست هذه مقدمات الحرب؟ والهجوم الكردي الأميركي على الجيش السوري في القامشلي ألا يندرج في التمهيد للحرب؟ هذه أسباب الحرب الأميركية على إيران، ماذا عن إدلب؟
أثار الأميركيون استنفاراً عالمياً من قبل حلفائهم لما أسموه احتمال استعمال الجيش السوري اسلحة كيماوية في هجومه على إدلب. وعندما فضح الروس مخططاتهم بالفبركة والتلفيق، أطلقوا صيحات هائلة بضرورة انقاذ 3 ملايين مدني في إدلب مهددين بالقتل في الهجوم المرتقب للجيش السوري.
واستنفرت معهم أوروبا وإسرائيل والخليج.
حتى أن وزير الخارجية السعودي الجبير قال إن إيران تدعم إرهاباً في منطقة الشرق الأوسط بتحضر لقتل المدنيين في إدلب. ومَن كان يصدق ان الرئيس الفرنسي يعلن استعداد بلاده لمهاجمة الجيش السوري في حالتي الكيماوي وقتل المدنيين. وكذلك فعلت بريطانيا، ما استدعى استنفاراً ألمانياً أبدى استعداده للمشاركة في ضرب اهداف سورية هذا من دون نسيان «إسرائيل» التي تواصل هجماتها.
فتجتَمِعُ في هذه الحالة واشنطن وأوروبا والخليج و»إسرائيل» في مواجهة الجيش العربي السوري وهو بحالة تحرير اراضٍ في بلاده لإعادتها الى السيادة السورية.
فهل هذا طبيعي؟
إن هذا الاستنفار الغربي في وجه سورية يكشف ان هناك خطراً استراتيجياً يصيب الأميركيين وتحالفاتهم على مستوى استراتيجي، وليس مجرد خسارة معركة، لأن من يستطيع جذب كل هذه القوى معيداً تموضعها في سلته هو «المعلم الأكبر» وليس طرفاً واحداً.
فمن هو هذا المعلم؟ إنه الأميركي الذي نبه حلفاؤه الى أن خسارة إدلب تعني عسكرياً انكشاف احتلالين للأراضي السورية: الأميركيون والأوروبيون شرقي الفرات والأتراك في شمال سورية.
أما استراتيجياً فإن تحرير إدلب يعني اعادة بناء السيادة السورية وانطلاق صعود روسي في المنطقة قد يتجاوز أدوار الاتحاد السوفياتي في مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
مع ما يعنيه هذا الامر من اختراق روسي صيني لأسواق الشرق الأوسط بالسلع والسلاح، والغاز الذي يشكل الطاقة المقبلة.
تفترض هذه الحالة انكفاء الأدوار الاقتصادية والاستراتيجية للأميركيين والأوروبيين.
أما سياسياً فتصبح دول الخليج الموالية للأميركيين قابلة للتغيير السياسي، الأمر الذي يحضّ واشنطن على عرقلة الدور الإيراني بحصار الجمهورية الاسلامية ومحاولة إسقاط نظامها ومنع تحرير إدلب بالقوة المسلحة.
إن ما يكشف خطورة هذا المشروع الأميركي فهو تنبّه روسيا إليه، واعلانها قبل يومين فقط استعدادها للدفاع عن إيران في وجه الحصار الأميركي الخليجي عليها، وكانت تكتفي قبلاً بمطالبة الطرفين بالتفاهم. وبدورها الصين بدأت تجنح بوضوح نحو المحور الروسي الإيراني – السوري لأنها أدركت أن واشنطن بدأت حربها لمنع أي صعود آخر ولأي دولة بما فيها الصين.
إدلب إذاً هي «حائط الصدّ» الذي تستعمله واشنطن لإيقاف الروس ومنع إنجاز السيادة السورية، كما ان حصار إيران هو الوسيلة لمنع التراجع التدريجي للجيوبوليتيك الأميركي في الشرق الأوسط.. فهل تصل حالات الاحتراب الى مرحلة حرب عالمية؟
المعتقد أن الحرب لن تتجاوز الميدان السوري العراقي – الإيراني والحدود مع فلسطين المحتلة، لكنها غير قابلة لتصبح عالمية، لأن هذا يعني تدمير الكرة الأرضية بما يكشف أن السيادة السورية الكاملة لم تعد بعيدة والصعود الروسي الصيني لن يتعرقل كما أن إيران قد لا تتوقف عند حدود الدولة الإقليمية المحدودة. وهذا يدل على أن عالماً متعدد الاقطاب على وشك التشكل انطلاقاً من محافظة إدلب وحماية النظام السياسي في إيران.