حكومة لبنان «عجيبة» في بلد «العجائب»!
د. وفيق إبراهيم
هل هناك حكومة في العالم تحتوي على الموالاة وكل المعارضة في آن معاً؟ قد يحدثُ اتفاق نسبي يُوسّعُ من دائرة المشاركين، لكنه لا يلغي دور كامل أجزاء المعارضة ودورها في مراقبة الأداء الحكومي وإلا لماذا جرت انتخابات نيابية اختار فيها الناس نوابهم؟
هذه المعجزة لا تحدث الا في بلاد الأرز، حيث تسمع على شاشات محطاته أنه يرقى الى 3000 عام وأكثر، وهناك قيادي في «القوات اللبنانية» يزعم أن حزبه استمرار «لمقاومة» عمرها أكثر من الفي سنة.
لم نعرف مَن كانت تقاوم وأين ومتى؟ لأن الإسلام لم يكن قد ظهر بعد، وكان المسيحيون ينتشرون آنذاك في العمق السوري المحاذي حالياً لتركيا؟ اسمع ولا تصدق، فأنت في لبنان.
يجب الإقرار بأنّ السياسة في لبنان ميثاقية تفاهمية إنما بين المكوّنات المذهبية والطائفية الكبرى لا بين أجزائها المتنافسة بمعنى أنّ على أيّ حكومة أن تضمّ شيعة وسنة ودروزاً ومسيحيين من الموارنة والكاثوليك والأرثوذكس والأرمن، لكن هذا لا يفترض أبداً وجود كامل لأحزاب ومستقلي هذه الفئات داخل الحكومة، فهذا يتطلّب مجلس وزراء يضمّ أكثر من 50 وزيراً، ولا يفرض مساواة بين الكتل الكبرى المتصارعة، إلا أنّ الرئيس المكلف يريد حكومة وفاق وطني جديدة على مقاسين: هيمنة حزب المستقبل وتحالفاته الداخلية عليها، وتوسيع النفوذ السعودي في لبنان على حساب الدور المتصاعد لحزب الله المتحالف جهراً مع إيران وليس خفية، لأنها جزء من تحالف إقليمي يقاتل المحور الأميركي الإسرائيلي وتحالفاته العربية.
أين تكمن مشكلة الحريري؟
أطلق تصريحات إيجابية أثناء خروجه من الجلسة الأولى للمحكمة الدولية الخاصة بالتحقيق في اغتيال والده المرحوم رفيق الحريري أعلن فيها استعداده للتعاون الإيجابي الحكومي مع حزب الله، مناقضاً بذاك الاتهامات الموجّهة للحزب في المحاكمة وفهم المتابعون أنّ مرحلة «المقايضة»، عند ابن الشهيد بدأت، مصرّاً على ستة وزراء سنة يقبل بتبادل واحد منهم مع وزير مسيحي من حصة رئيس الجمهورية وأربعة للقوات وثلاثة لجنبلاط مقابل عشرة وزراء للتيار ورئيس الجمهورية وستة لثنائي أمل حزب الله وواحد للمردة. وهذه مقايضة تناقض نتائج الانتخابات وتضع مصير الحكومة بين أيدي حلف الحريري بحيازته للثلث المعطل ورئاسة حكومة ومعظم مديري الصناديق والمجالس ويستطيعون شلّ أيّ قرار لا يعجبهم مهدّدين بتفجير الحكومة قانونياً وفي أيّ وقت يريده مداهم الإقليمي أو حاجاتهم الداخلية.
هذا يعني بلغة السياسة تزويد الضعيف قوة منع الحكومة من رعاية ازدهار داخلي ووجود إقليمي، المطلوب حريرياً هو الإبقاء فقط على حالات الفساد التي تستوطن الإدارات والصفقات فهل مَن يسأل هذه الحريرية المسيطرة على الحكومات منذ 1992 أين ما وعدت به في ذلك التاريخ من كهرباء ومياه ورفع نفايات بشكل صحي وازدهار اقتصادي وبنى تحتية لا تقتصر على سرقة الأملاك البحرية ومرافق لخدمة «السوليدير»؟ أين ذهبت مئة مليار دولار تمثل قيمة الدين العام وليس لها ما يقابل ربعها فقط من الإنفاق الرسمي الفعلي بعد حسم التضخم السياسي الذي ذهب لمصلحة طبقة سياسية بكامل أنواعها إنما بإشراف الحريرية السياسية.
ماذا تريد الحريرية بعد من الحكومة الجديدة؟
تريد منع تشكّل فريق سني نيابي يخرج عن وصايتها ونجح في الانتخابات الأخيرة في لوائح منافسة للوائحها. فهؤلاء قد يتحوّلون بداية انقلاب شعبي سني على الحريرية التي وعدتهم بالازدهار ولم تفِ بأيّ شيء. فبدّلت الازدهار بشنّ أعنف هجمات لتأزيم الفتنة السنية الشيعية، فاستعملت الإعلام وخطباء المساجد والصراع الإقليمي السوري السعودي من جهة والإيراني الخليجي من جهة ثانية لتعزيز حركاتها التحشيدية الطائفية.
هناك خطر ثانٍ لا تريده الحريرية ويتعلق برفض توزير الأحزاب الوطنية والقومية لما تجسّده من خطر على مجمل النظام الطائفي المذهبي الحاكم، صحيح أنه ليس خطرأً داهماً لكنه بتحالفه مع سورية يشكل خطراً على المديين المتوسط والطويل قد يؤدّي الى زعزعة النظام الحاكم.
يمكن تلمّس رغبة حريرية إضافية بمنع تحالف حزب الله أمل من توزير مسيحيين أو سنة فازوا على لوائحهم، فهذا عمل يدفع باتجاه تعزيز الدور الوطني للثنائي لا تقبل به الحريرية السياسية وارثة الأنظمة الطائفية القديمة، إنما من خلال سيطرة مذهبية جديدة أكثر ضراوة وأوسع اقليميةً.
والطريف أنّ وكلاء الحريرية يزعمون انّ حكوماتهم المتعاقبة هي التي أنشأت المؤسسات في لبنان وأشادت البنى التحتية! لذلك فهناك من يسألهم عن مشروع واحد بنوه في محافظتي الشمال والبقاع؟ وما هي المؤسّسات التي أسّسوها.
هم سيطروا على مؤسّسات قائمة واستولوا على موازناتها موفرين ما يلزم لقيام «سوليدير» التي تملكها عائلة الحريري التي استولت على أملاك أهالي بيروت بقوة قانون أتاح لها استملاكها بأرخص الأسعار.
فهل يقبل حزب الله بالمقايضة بين الحكومة والمحكمة؟ هذا سؤال مضحك، لأنّ الحزب اعتبر المحكمة منذ تأسيسها أنه ما كان ممكناً لها أن تنشأ لولا موافقته.
وتعامل معها بعد انكشافها السريع على أنها آلية من الآليات الأميركية المنضوية في وجه الحلف السوري الإيراني مع حزب الله بانياً موقفه على قراءات قانونية عميقة. والدليل أنها ومنذ تأسيسها في منتصف الـ 2006 لم تتحدث إلا عن اتصالات هاتفية بين قيادات عسكرية من حزب الله في يوم تنفيذ الجريمة.
علماً أنّ المكالمات الهاتفية سهلة الفبركة ولا تأخذ بها المحاكم الرصينة.
وللمزيد من التشهير الذي لا يمتلك خلفية قانونية لفّق مدعي عام المحكمة «خبريات» لا تخرج عن نطاق الثرثرة عن اتصالات هاتفية بين القيادات الحزبية المتهمة مع حسين الخليل معاون أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله لدى استقباله في واحدة من مرات كثيرة المرحوم رفيق الحريري.
ويبدو التوغل في تسييس المحكمة فاضحاً، عندما يؤكد المدّعي العام على العلاقة بين حسين خليل ومسؤول أمن الحزب وفيق صفا! وعلاقة الأخير بمسؤول الأمن السوري حينها رستم غزالة.
فهل هذا اكتشاف أن يعرف قيادي في حزب الله قيادياً آخر؟ وأن يلتقي الاثنان بمسؤول سوري أمني كان مولجاً برعاية الأمن في لبنان من خلال الجيش السوري الذي دخل الى لبنان بتكليف أممي!
هذه هي الدلائل التي جعلت حزب الله يتأكد من تسييس المحكمة وأهدافها المرتبطة بتشويه سمعة حزب الله والقيادتين السورية والإيرانية مع جنوحها الساطع لتزويد الفتنة السنية الشيعية بجرعات قاتلة. ويُمكن لهذه المحكمة أن تؤدّي دوراً يعيد الأرجحية الحكومية لحلف الحريري القوات اللبنانية، وذلك بحشر حزب الله في مرحلة تشكيل الحكومة بالذات في زاوية التشهير. فيجد نفسه مضطراً لمزيد من التنازلات الحكومية في سبيل الوحدة الوطنية فقط.
إلا أنّ ما يمكن ملاحظته هو الازدراء الذي يتعامل به حزب الله مع ألاعيب الحريرية ومحكمتها.
وإذا كان يقبل بالشيخ سعد رئيساً للحكومة، فلأنّ الأخير لا يزال يشكل القوة السنية الأكبر ما يفرض على الملتزمين بالميثاق القبول بها، ومنهم ثنائي أمل حزب الله، لكن هذا لا يعني موافقتهم على استبعاد السنة المستقلين والحزب السوري القومي الاجتماعي.
فهؤلاء يضمّون نحو 14 نائباً يخرجون في السياسات عن الولاء لقواهم المذهبية الكبرى.
الحكومة العجيبة المرتقبة الى أين؟ لن تبصر النور قبل تلمّس مستقبل إدلب، فالسعودية وحلفاؤها يعتقدون أنّ هجوم الجيش السوري لتحريرها من شأنه استيلاد هجوم مضادّ أميركي إسرائيلي كبير قد يعيد لآل الحريري هيمنتهم على حكومة لبنان، أليست هذه عجيبة ومن المعجزات، فمتى كان الغرب يحارب من أجلنا…؟