كيف تستردُّ سورية سيادتها على أجوائها؟
د. وفيق إبراهيم
ليس كافياً أن تخترق طائرات حربية روسية المدى الإسرائيلي البحري عند سواحل فلسطين المحتلة حتى تستعيد روسيا كبرياءها وسورية سيادتها.
لم تجابه «إسرائيل» هذا الاختراق لأنها أرادت احتواء غضب وزارة الدفاع الروسية التي حمّلت «إسرائيل» مسؤولية التسبب بسقوط طائرة الأليوشن قرب سواحل اللاذقية السورية.
صحيح أنها سقطت بنيران صواريخ سورية من عيار s- 200 من خطأ تقني، لكن القيادة في موسكو كشفت أن سرباً جوياً إسرائيلياً كان يهاجم اهدافاً للجيش السوري في الساحل وتعمّد الاختباء خلف طائرة في وقت يتم إطلاق صواريخ تعمل على الاقتفاء الحراري للأهداف ولا تُميّزُ بين الصديق والعدو فقد أصابتها من غير تعمّد، لأنها كانت تستهدف الطائرات الإسرائيلية المُغيرة.
هناك أمران أثارا غضب الرئيس الروسي بوتين: لماذا تعمّدت الطائرات الإسرائيلية الإحاطة بالأليوشين بشكل مقصود؟ ولماذا تقصف «إسرائيل» منطقة اللاذقية الآن وهي البعيدة مئات الكيلومترات عن حدود فلسطين المحتلة، ولم يسبق لها أن تعرّضت لقصف منذ حرب 1973.
تبين للكرملين أن الذرائع الإسرائيلية بالقصف كاذبة: فليس هناك اي اهداف لإيران او حزب الله، علماً أن التبرير الإسرائيلي تحدث عن نيات سورية بصناعة أسلحة في المقر المستهدف لإرسالها في ما بعد الى حزب الله.
هذا ما دعا الكرملين متيقناً بأن هذا القصف مرتبط بمحاولة التأثير على نتائج المؤتمر الروسي التركي في سوتشي التي لا تريدها لا «إسرائيل» ولا تحالفاتها.
وتعتبره موسكو خرقاً لتفاهمات روسية إسرائيلية بدأت بتحديد قواعد للتدخل الجوي الإسرائيلي في سورية ضمن أضيق السبل لكن «إسرائيل» استغلت التردد الروسي في الصدام وبالغت الى حدود شن مئتي غارة معظمها على مواقع للجيش السوري.
سورية من جهتها لم تقبل بهذه التفاهمات الضمنية فحاولت مجابهة الاختراقات الإسرائيلية، لكن أسلحتها الموجودة لم تتناسب مع الإمكانات الجوية الإسرائيلية الشديدة التطوّر وحرصاً من موسكو على عدم استثارة تل أبيب نتيجة لعوامل داخلية لديها وخارجية صمتت طويلاً عن إدانة اعتداءاتها فأصبح هناك موقفان متناقضان غير علنيين:
سوري يبذل جهوداً جبارة لمجابهة الطيران الإسرائيلي وروسي يراه ويرفضه سراً، لكنه لا يعبر عن ذلك ولا يفعل شيئاً لردعه، كأن يهمّه أن يمرر المرحلة بأقل قدر ممكن في استثارة أضرار ومعوقات على الدور الروسي في سورية، لأنه يعلم ان الاعتداءات الإسرائيلية لا تصيب الدور الروسي ولا تعرقل اتساع سلطات الدولة السورية. وهناك معلومات تتردّد على أن تيارات من العسكريين الروس من ذوي الأصول اليهودية في الكرملين يعملون على علاقات هادئة بين موسكو وتل أبيب وينتظمون أيضاً في إطار تأبيد التحالف مع سورية.
لكن اسقاط الاليوشن الروسية بفخ إسرائيلي، حسب القناعة الروسية نقل الموقف بين البلدين من مستوى العداء الإسرائيلي لإيران وحزب الله الى حدود العمل ضمن الموقف الأميركي الكبير لتطويل أمد الأزمة السورية ومنع تحرير إدلب مجدداً وهذا يعرقل الدور الروسي الطامح للخروج من الاقليم.
تجدر الاشارة الى أن الدور الإسرائيلي ومنذ بدايات الهجوم على سورية في 2011 شكل جزءاً من المشروع التفتيتي للمنطقة مع الأميركيين والخليجيين والترك، لكن نجاح الحلف السوري الإيراني الروسي باسترجاع معظم ميادين سورية دفع بالإسرائيليين الى تنظيم تفاهمات مع الروس على أساس الاعتراف بهم قوة رئيسية مقابل حقهم في ضرب ما يسمّونه قوافل إيرانية.
فهل تحتاج روسيا فعلاً الى اعتراف إسرائيلي بمكانتها في سورية؟ ومَن يحتاج الآخر؟ هم الإسرائيليون الذين يستفيدون من الصمت الروسي عن عدوانهم على سورية.
الواضح اذاً ان ازمة إدلب تفتح الاحتمالات على مستجدات تفرِضُ اسقاط الحذر السياسي القديم خصوصاً وانه تبين وجود مشروع أميركي خليجي إسرائيلي مُصمّمٍ على إسقاط سوتشي والإبقاء على الإرهاب للزوم إطالة الأزمة السورية.
كيف يمكن إسقاط اتفاق إدلب، حسب القناعة الأميركية: أولاً منع تركيا من تصفية هيئة تحرير الشام النصرة ذات الأصول القاعدية المتواصلة. وهذا ما يعمل عليه الأميركيون الذين رفعوا من مستوى شحنات الأسلحة المرسلة الى إدلب ويحمون دفعات من الإرهابيين ينتقلون اليها من بادية الشام وضواحي قاعدة التنف وشرق الفرات.
أما الخطوة الثانية فتتعلق بإغارات إسرائيلية «حسب الطلب» على اهداف حول إدلب في مناطق الساحل، بزعم أنها قواعد لحزب الله وإيران.
ويبدو أن اللعبة الأميركية تذهب نحو استثارة كرد «الداخل التركي» وبالتالي الكرد في شمال سورية، بما يؤدي الى لجم طموحات اردوغان الحالم بدور سياسي كبير لبلاده في سورية والعراق بالتعاون مع الروس.
إذا كان هذا ما يريده الأميركيون؟ ماذا على الروس أن يفعلوا؟
الدولة السورية أقرّت أن هناك خطأ سببه التمويه الإسرائيلي وضعف أسلحة الدفاع الجوي لديها لذلك من الطبيعي ان تطلب من حلفائها الروس تزويدها نظام S-300 أو S- 400 لحماية أجوائها من الخطة الأميركية الإسرائيلية العازمة على تدمير اتفاق سوتشي انطلاقاً من منطقة إدلب وتشجيع الإسرائيليين على خرق أجواء سورية في كل وقت.
فكيف توافق موسكو على بيع تركيا والسعودية وقطر S 400 وتمنع ذلك عن سورية؟ وهل لدى روسيا حجة مقنعة؟
هناك مصلحة روسية بتزويد سورية أنظمة أسلحة متطوّرة لحماية أجوائها، لكن هذا ليس كافٍ بالنسبة لبوتين فهو يريد منع «إسرائيل» من عرقلة الدور الروسي. وهذا لا يكون الا بمنعها من استهداف الجيش السوري. وهو المؤسسة الوحيدة التي بوسعها تقليص الهيمنة الإسرائيلية على الأجواء من دون إثارة احتقان روسي من جهة وأميركي – إسرائيلي من جهة ثانية فهي صاحبة البلاد وإدارة تحقيق السيادة.
لذلك فإن موسكو أمام أزمة حقيقية.
فهي قد تجد نفسها مضطرة الى إرسال انظمة صاروخية أحدث من S200 وتتحسب في الوقت نفسه من رود الفعل الأميركية – الإسرائيلية من دون نسيان المواقف السعودية الإماراتية التي تُنسق اسعار الطاقة معها. أما اذا حدث اختلاف، فإن هذا التنسيق يصبح في مهب الريح آخذاً بعين الاعتبار أن اربعين في المئة منها، إنما مصدره الغاز والنفط الروسيان.
ان إقفال أجواء سورية في وجه البلطجة الإسرائيلية لم يعد بعيداً، لأنه لم يعد يُجسدُ مصلحة سورية فقط بل روسية أيضاً للمحافظة على نتائج سوتشي، وبالتالي آفاق الدور الروسي انطلاقاً من سورية نحو الإقليم.
ولن يتفاجأ أحد بأن التسليح الصاروخي لسورية لا تعترض عليه حتى تركيا التي تريد المحافظة على نتائج سوتشي، لأنه يمنحها دوراً كبيراً في سورية ويحفظ لها اتفاقات اقتصادية مع موسكو تزيد عن مئة مليار دولار بالإضافة الى خط روسي للغاز عبر البحر الأسود الى تركيا ومنه الى أوروبا. وهذا يؤمن الاستقرار الاقتصادي وبالتالي السياسي لأنقرة ويصونها من التأديب الأميركي الذي يستهدفها عندما تخرج عن حرفية النص الذي يكتبه البيت الأبيض.
إن حماية الاجواء السورية تؤسس لحماية مماثلة لأجواء لبنان من خلال تمكن حزب الله من تأمين أسلحة متطورة للدفاع الجوي، باعتبار ان الأميركيين والأوروبيين يرفضون تزويد لبنان بأسلحة حديثة. وهكذا يصبح بالإمكان الجزم بصعوبة تنفيذ «إسرائيل» اجتياحات برية إذا خسرت تفوقها الجوي.
فهل تذهب موسكو نحو هذا الحل؟
إنها «سياسة الضرورة» التي تجمع بين مصلحة سورية وروسيا في آن معاً، ولذلك بالإمكان الاعتقاد أن المنطقة تقترب من عصر نهاية التفوق الجوي الإسرائيلي وربما أكثر…