المقاومة بـ«دبلوماسية»… باسيل
روزانا رمّال
يتحدث العارفون بالسلك الدبلوماسي وبطبيعة عمل السفراء، ومنهم أصدقاء لدبلوماسيين معروفين عن طبيعة الصورة المنوطة بتقارير السفراء وملاحظاتهم المنقولة الى بلادهم التي ترسم سياسات الدول تجاه بعضها البعض على اساسها.. أما بالنسبة لنماذج عن سفراء مفوّضين، فإنّ الأمر يختلف مع هذا النوع منهم أيّ السفير «المفوض» او الأكثر قدرة على التأثير داخل البلد المضيف وعند وزارة خارجيته، نظراً لتمتعه بصلاحيات واسعة يمكن من خلالها التحرك في مهمته من دون الرجوع الى وزارة خارجيته في كل شاردة وواردة. وهذا الامر هو الذي يشرح عزوف بعض مَن لم يحضروا جولة باسيل إلى الأوزاعي ونادي الغولف، ويفسر رجوع بعض السفراء الى وزراء الوصاية اي الوزراء المباشرين المعنيين بمهماتهم وهم وزراء خارجيتهم. البعض منهم لم يحصل على رد والبعض الآخر حصل على الردّ الفوري بمقاطعة جولة باسيل ما خلا الحضور الى وزارة الخارجية، لأن الخارجية اللبنانية وحدها القادرة على الحفاظ على طبيعة سير مهمتهم وربطهم بالدولة اللبنانية ويحبّذ الحفاظ على العلاقة الطيبة معها. الأمر الذي ينتهجه سفراء معروفو التوجه من غربيين وخليجيين مع الخارجية اللبنانية حفاظاً على هذه العلاقة الطيبة.
قبل الدخول في تفاصيل جولة وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل الى الموقع المنشودة معاينته وهو ملعب العهد لكرة القدم، يلفت للمرة الاولى ان يطلب وزير خارجية لبناني او سياسي من سفراء دول العالم الحضور لمواجهة ما يعتبر أمراً سيادياً طارئاً يطلب منهم الحضور كـ «شهود « تضعهم هذه المهمة عند طائلة المسؤولية والفبركات الخطية والتقارير الشفهية المرسلة لمرجعياتهم والقضية «إسرائيل»!
هي فعلاً مفاجأة استدعت اصحاب السوابق بالخلاف السياسي مع باسيل وقياديين بحجم رئيس مجلس النواب نبيه بري الى توجيه أكبر التحايا لوزير الخارجية. فمعروف عن اللبنانيين استتباعهم واستزلامهم للسفراء وبعض السفارات حتى صار مشهد أمس وتعاطي باسيل مع السفراء كافة بشكل واحد لسمو الهدف وسياديته. الأمر الأكثر حضوراً لكن الفصل الجديد من الممارسة الدبلوماسية العربية كتبه باسيل أمس وهو نوع جديد من فصول المقاومة «بدبلوماسية».
من قال إن مقاومة «إسرائيل» بالسلاح فقط، المقاومة ايضاً تولد من رحم المواقف الشجاعة بوجه العدوان اليومي وتقارير نتنياهو امام الجمعية العامة للأمم المتحدة هي تحريض على شرعنة اي اعتداء باتجاه لبنان، وباسيل اراد رفع الصوت باسم كل اللبنانيين.
لن تقرأ «إسرائيل» موقف باسيل وتحدّيها امام سفراء كل العالم كعملية استعراضية بطولية، كما سيقرأها خصوم باسيل المحليون، إنما قرأتها بعين واحدة وموقف واحد ووجهة واحدة وهي « تشويه» صورتها وتسخيفها أمام دبلوماسيي العالم ووضع أكاذيبها في إطار قادر على إحباط سياسات بأكملها بنيت على التضليل. فكيف بالحال اذا كانت الرسالة السياسية اللبنانية منهجياً أعمق من هذا الطرح وصارت كالتالي:
تغير الموقف اللبناني الرسمي باتجاه التعامل مع «إسرائيل»، وهناك قوى «مسيحية» لا تعتبر مسألة التحالف مع حزب الله صورة او مسرحية تضيف الى رصيدها المحلي مكاسب منها «رئاسة الجمهورية». فباسيل الذي استطاع وحزبه ورئيس تياره سابقاً الرئيس الحالي ميشال عون يتحدى الإسرائيليين. وقد ربح ما ربح عون من حزب الله من تأييد، بالتالي يكشف التيار الوطني الحر أن مسألة التحالف هي استراتيجية طويلة الأمد وليست مصلحية، بل هي «قناعة» راسخة لا تحتمل التأويل الذي يرافق غالباً الاحزاب المسيحية تجاه التشكيك من موقفها حيال «إسرائيل» ومحاولة تصويرها بأنها «متساهلة».
ثانياً: تحذير «إسرائيل» من هذا المتغير السياسي الذي عصف بلبنان بعد الانتخابات النيابية وتذكيرها بأن الحكومة وشكلها لن تكون على غرار تلك في عام 2006، لهذا فإن مواجهة حزب الله هذه المرة تحولت مواجهة للدولة اللبنانية ككل بعد أن سلك رئيسها بما يمثل من خلفية طريق المواجهة الكاملة مع «إسرائيل»، وعلى ان الاكثرية النيابية لصالح حزب الله وحلفائه فإن أي حرب مقبلة ستكون مع حكومة لبنانية مؤيدة بأغلبيتها او مفاصلها لهذا الخط تماشياً مع نتيجة الانتخابات. فلا التيار الوطني الحر مستعد للتنازل عن تمثيل يضمن نتيجة فوزه ولا حزب الله يبدو مستعجلاً للضغط على حلفائه وتشكيل حكومة.
ثالثاً: وضع سفراء العالم أمام مسؤولياتهم تجاه أي عدوان يتعرّض له لبنان ووضع «إسرائيل» أمام مشهد مربك سياسياً ودبلوماسياً يستدعي اعادة النظر في طريقة التعاطي مع لبنان الذي تغير اليوم وصار من الصعب مواءمة مشاريع محلية مدعومة غربياً مع عمليات عسكرية إسرائيلية.
المقاومة دبلوماسياَ ولدت مع هذا الموقف التاريخي الذي يسجل للخارجية اللبنانية التي عرفت كيف يمكن استغلال الموقع والاستفادة من قدرة سفراء الدول على رفع نسبة الجهوزية والاستنفار في بلادهم منعاً لأي تطور إسرائيلي مفاجئ يطيح مصالحهم في لبنان والمنطقة، لأن المسألة ليست محصورة في حرب على لبنان وسط منطقة تغلي لم تدخل قطار التسويات حتى الساعة.
باسيل… عندما تقاوم الدبلوماسية..