رئيس الجمهورية ودوره في تشكيل حكومات ما بعد الطائف
النائب الدكتور فريد البستاني
من المتفق عليه أنّ الأمر تغيّر كثيراً بين ما كان عليه دور رئيس الجمهورية في تشكيل حكومات ما قبل اتفاق الطائف وما بعده، لكن النقاش منذ اتفاق الطائف لا يزال يدور حول حدود هذا التغيير، كما من المعلوم أنّ حسم التوافق الوطني على حدود التغيير يرسّخ اتفاق الطائف كمرجع للدستور الجديد، ويسهّل تطبيق مضمونه، خصوصاً أنّ سائر بنوده المتصلة بتوزيع الصلاحيات بين ثلاثية رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ومجلس الوزراء، لا تبدو موضع الكثير من النقاش، سوى ما يستدعي بعض الإضافات التكميلية كمثل وضع مهلة للوزير لتوقيع المراسيم، طالما أنّ ثمّة مهلة وضعت لرئيس الجمهورية، وسواها من المتمّمات التي لا تمسّ بجوهر الميثاق الوطني الجديد ولا بمندرجاته التأسيسية.
في البداية لا بدّ من إيضاح أنّ دراسة مرحلة ما قبل الطائف لا تستقيم بالعودة للنص الدستوري وحده، الذي كان يمنح رئيس الجمهورية وحده صلاحيات السلطة الإجرائية وتسمية أعضاء الحكومة واختيار رئيس لها من بينهم، فلم يكن هذا هو الحال لمرة من المرات، فالأعراف التي تكرّست بالممارسة كانت تقوم على مراعاة طائفية وسياسية ونيابية يقيمها الرئيس للتوازنات المحيطة بلحظة تشكيل الحكومة، يختار بموجبها رئيساً يكلفه تشكيل الحكومة، وهو لم يقُم بتشكيل حكومة واختيار رئيس لها من بين وزرائها ولا لمرة واحدة، فاختيار رئيس الحكومة لم يكن بعد تشكيلها ولا مرة واحدة، ولا كان منفصلاً عن تكليفه أن يتولى تشكيل الحكومة، ويعرض تشكيلته على رئيس الجمهورية ليتفقا عليها وتصدر بعدها مراسيم تشكيلها.
كان رئيس الجمهورية عندما يختار من يكلّفه تشكيل الحكومة يراعي وزنه في طائفته ودرجة المقبولية التي يلقاها بين مرجعياتها الدينية والسياسية والنيابية، كما يراعي علاقاته بسائر المكوّنات المطلوب تعاونها في تشكيل الحكومة، ويراعي فوق ذلك الصورة الافتراضية لتتقدّم الحكومة لاحقاً بطلب نيل الثقة من مجلس النواب.
لم يحدث أن سحب رئيس الجمهورية تكليفه من رئيس كلفه تشكيل الحكومة مهما طالت مدة التأليف، وعندما كانت تسدّ الأبواب أمام الرئيس المكلف لتشكيل حكومة تلقى رضا الكتل الكبرى سياسياً وطائفياً ونيابياً، أو يعجز عن تقديم تشكيلة حكومية تحظى بقبول رئيس الجمهورية، كان هو من يبادر للاعتذار.
لم يحدث أن أقال رئيس الجمهورية حكومة، رغم كون السلطة الإجرائية منوطة به يعاونه فيها وزراء يعيّنهم ويختار من بينهم رئيساً لهم، ولا حدث أن تصرّف بهذه السلطة خارج ما يفرضه منطق التوازنات الوطنية في ممارسة السلطة الإجرائية بإصدار المراسيم.
عملياً يبدو أنّ النصوص التنظيمية التي نصّ عليها اتفاق الطائف في شأن علاقة رئيس الجمهورية بتشكيل الحكومات، قد هدفت في الكثير منها إلى تحويل العرف الذي كان سائداً من قبل نصوصاً، لجعلها نصوصاً ملزمة ومنحها المزيد من القوة لكونها ربطت بنقل السلطة الإجرائية من يد رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، وهذا يعني بالتأكيد جعل الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة بعد الطائف محصّناً لكونه يأتي بتسميته من استشارات نيابية ملزمة تمنحه قدراً عالياً من الاستقلالية والتوازن بعلاقته مع رئيس الجمهورية في دوره بتشكيل الحكومة، بمثل ما تمنحه النصوص الخاصة بدوره في إدارة العمل الحكومي والإشراف على عمل الوزراء مزيداً من القوة المعنوية والدستورية، لكن السؤال الجوهري يبقى هو هل اتفاق الطائف جعل دور رئيس الجمهورية في تشكيل الحكومات هامشياً كدور ملكة بريطانيا، ومنح لرئيس الحكومة السلطة المطلقة في التشكيل، مانحاً لرئيس الجمهورية ما يحفظ ماء الوجه عبر مجرد التوقيع على مشروع مرسوم تأليف الحكومة المقترح من الرئيس المكلّف ليصير مرسوماً نافذاً؟
لأسباب لا حاجة للغوص فيها قدّمت تجربة ما بعد الطائف إيحاءً مغلوطاً عن حدود التناسب بين دور كلّ من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة التي تمّ تثبيتها في اتفاق الطائف، وبدا أنّ دور رئيس الجمهورية قد نقل ليد رئيس الحكومة، حتى أنّ الصلاحيات المنصوص عليها كصلاحية لمجلس الوزراء مجتمعاً، اعتبرها البعض عملاً تجميلياً لنقل الصلاحيات عملياً ليد رئيس الحكومة بعد نزعها من يد رئيس الجمهورية.
تشكل العودة لمناقشات الطائف مع مَن شاركوا فعلياً في مناقشاته وكواليس تفاهماته من جهة، وللنصوص التي خرجت من الطائف وتحوّلت نصوصاً دستورية لاحقاً، من جهة موازية، فرصة لتثبيت حقيقة أنّ الدستور الجديد يقوم على توازن دستوري بين الرئاستين في عملية تشكيل الحكومة، مع أنّ بعض المناقشات التي ينقلها عديد من الذين شاركوا فيها كإطار لتفاهمات الطائف تتحدّث عن أرجحية واضحة لرئيس الجمهورية، يكفلها التفاهم الضمني على حق رئيس الجمهورية بتسمية الثلث الضامن من الوزراء في الحكومة، بما يمكّنه من الشراكة في القرارات المصيرية التي ينصّ الدستور على وجوب نيلها ثلثي التصويت في مجلس الوزراء، وهو ما لم يعمل به يوماً بسبب توازنات داخلية وإقليمية حكمت تشكيل الحكومات، لكن بقي منه حق مكرّس لرئيس الجمهورية عرفاً بتسمية عدد من الوزراء تحت عنوان، حصة رئيس الجمهورية.
السياق الراهن للحكومة التي يطلق عليها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون صفة حكومة العهد الأولى، يقول وقد باتت عملية التأليف قاب قوسين أو أدنى، إنّ عملية ردّ اعتبار قد تمّت لروح اتفاق الطائف في توزيع الصلاحيات، وإنّ الشراكة الكاملة بين رئيسي الجمهورية والحكومة في تشكيل الحكومة هي الترجمة الدقيقة لما نص عليه الدستور الذي ساوى بينهما في حق التوقيع، وهي الترجمة لما تمّ في المناقشات التي منحت رئيس الجمهورية حق تسمية عدد من الوزراء يمكنه من ممارسة الشراكة في القرارات المصيرية للحكومة، بما يمثل دستورياً وما يمثل سياسياً ووطنياً، كما منحته الشراكة ترجمة مضمونها بممارسة الحق في التدقيق بالتشكيلة التي يقترحها الرئيس المكلف، خصوصاً أنّ الرئيس المكلف يقدّم تشكيلته وفقاً لمعايير الحاجات السياسية والاقتصادية والعملية، بينما يقوم رئيس الجمهورية بفحصها وفقاً لمعايير مدى درجة مطابقتها للدستور في ميثاقيتها ونسبية تمثيلها للكتل النيابية تحقيقاً لصفتها كحكومة وحدة وطنية.
نجح رئيس الجمهورية ميشال عون بأن يقدّم للحياة السياسية ما يُخرج عمليات تشكيل الحكومات من الكثير من الوقت الضائع، النابع من غموض التوافق حول دور رئيس الجمهورية في تشكيل الحكومات بعد الطائف، فصار شريكاً في تثبيته وحامياً له وقد صار دستوراً. والأهمّ أنه نجح بتحقيق ذلك من دون إثارة أية حساسيات طائفية، ومن دون الإيحاء بأيّ نيل من مقام وصلاحيات رئيس الحكومة، وهذه علامات على نبل المقصد.