المملكة المريضة
ناصر قنديل
– ليس خافياً حجم الفضيحة الذي تسبّب به للعالم انكشاف درجة الانتماء العميق للسعودية إلى القرون الوسطى رغم طلاء الحداثة الذي حاولت بمعونة أصدقائها وحلفائها تغطية التخلف والتوحش اللذين تغرق فيهما. فالعالم متلعثم أمام عجزه عن الصمت وعجزه عن الكلام، حيث لا يريد أحد من الكبار أن يترك الغنيمة المالية التي تمثلها السعودية لسواه، بعدما لم يتبقّ فيها سواه، فقضية مقتل جمال الخاشقجي لم تفضح جديداً قديماً معلوماً عن السعودية، قدّمت الحرب على اليمن أمثالاً مضاعفة عنه، بتجويع متعمّد بلا رحمة لملايين اليمنيين، وبقتل منظم للمدنيين بكلّ قسوة ووحشية، لكن العالم أراد أن يغمض عينيه، ويتغاضى. قضية الخاشقجي فضحت حكومات الغرب التي وجدت لسانها مرتبكاً وعاجزاً عن الكلام، فصار ينطق بالتقسيط تحت ضربات الرأي العام المتحفز لطرح معادلة، أيّهما أهمّ مال السعودية لقاء الصمت على الجرائم والوحشية ورعاية الإرهاب أم حماية الأمن وتكريس منظومة قيَم تحكم العالم لحفظه، بعدما صار الجمع صعباً إن لم يكن مع كل يوم يمرّ يبدو مستحيلاً.
– قدّم الرئيس الأميركي دونالد ترامب نموذجاً للجواب عن السؤال بقول علني، كان مرات مهيناً للسعودية ومرات مدافعاً عن رموز حكمها، عنوانه المال السعودي يستحق التضحية بالقيَم وبالمعايير والتعايش مع التوحش والجريمة والفساد، والإرهاب أيضاً طالما أنه قابل للتوظيف في حروب بات الغرب عاجزاً عن خوضها، ومقابل ترامب نهضت حملة عالية السقوف وغير مسبوقة بوجه هذا الدلع الذي تحظى به السعودية، والذي يشبه في غير مواضيع الحقوق الفلسطينية، الدلع الذي تحظى به «إسرائيل». فطالما السعودية لا تستخدم مالها أو المكانة الناجمة عنه والتسهيلات التي تحوزها بسببه لحماية الحقوق الفلسطينية، فهي تستحق دلالاً موازياً لـ «إسرائيل» في الصمت عن جرائمها بحق الفلسطينيين، كيف إذا وقفت السعودية بمالها وتوظيف مكانتها المستمدّة من استضافة الحرمين الشريفين، في ضفة تسويق التطبيع مع «إسرائيل» إلى حدّ إشهار التحالف معها تحت شعار العداء المشترك لإيران؟
– لا يختلف أصحاب الحملة التي تدعو لتقليم الأظافر السعودية مع ترامب في أمرين، الأول مواصلة الحماية المطلقة لـ «إسرائيل»، والثانية الارتياح لتخلي السعودية عن الحقوق الفلسطينية، لكنهم يطرحون من موقع المصلحة الأميركية العليا أسئلة جوهرية حول فاعلية وقيمة هذه الحماية للسعودية لدرجة الحديث عن تحوّلها عبئاً على المصالح والسياسات الغربية عموماً والأميركية خصوصاً، واعتبار قضية مقتل الخاشقجي فرصة لتدفيعها ثمن الفشل في الملفات التي تعهّدتها وفي طليعتها، الدفع بالصلح مع «إسرائيل» وفقاً لشرط التخلي عن القدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين بتقديم الشريك الفلسطيني في صفقة القرن، ومثلها تعهّدها الإمساك بصاحب القرار في باكستان كدولة إسلامية كبرى ومحورية ونووية، ومثلهما الفشل في العراق وسورية، بصورة بات كل المشروع الغربي والأميركي خصوصاً في المواجهة مع روسيا والصين وإيران مهدداً بالفشل، وصار ثمن التسويات وضع حدّ للدلع الذي تحظى به السعودية.
– المواجهة مستمرة وفقاً لحسابات لا ينتمي أي منها للخير والحق، أو للدفاع عن حقوق الإنسان والشعوب، بل بالتحديد للإجابة عن سؤال: هل ينبغي الآن وللمصلحة الغربية العليا، والأميركية خصوصاً، تقديم الحماية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أم السير بتدفيعه ثمن مقتل الخاشقجي كعلامة على فتح ملف تقاسم صفقة القرن الكبرى، الدولة المريضة، كما سُمّيت في نهاية عمرها «الإمبراطورية العثمانية» بالرجل المريض؟