العالم تحت رحمة الجنون الأميركي!!
د. وفيق إبراهيم
جون بولتون مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب يفاوض في روسيا لوقف انهيار الإمبراطورية الأميركية وتراه يستعمل كعادته النفوذ الأميركي التاريخي.
عناوين براقة توحي وكأنها لمصلحة الإنسانية جمعاء، وعند التدقيق يتبيّن أنّ هدفها هو الحماية الحصرية للمصالح الأميركية التاريخية التي تهيمن على معظم الأرض منذ 1945.
لذلك أطلق البيت الأبيض منذ يومين فقط تهديداً بالانسحاب من اتفاقية الحدّ من الصواريخ النووية القصيرة المدى والطويلة الموقعة مع الكرملين منذ 1987.. وإيقاف التصنيع عند أعداد الصواريخ التي كانت تمتلكها الدول في ذلك الوقت وتدمير ما أمكن منها.
وبقي هذا الاتفاق محترماً لأنه عكس مرحلة النجاح الأميركي في استنزاف الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت من خلال دفعه الى سباق تسلح وغزو فضاء أرهقاه وقضيا عليه كظاهرة جيوبوليتيكية هامة حاولت التصدي للهيمنة الأميركية على العالم، ما أدّى إلى استفرادٍ أميركي مدعوم من أوروبا واليابان وكندا واستراليا استفرد بالاتحاد السوفياتي الذي كان وحيداً فسقط لمصلحة تعزيز الهيمنة الأميركية.
لكن الغيبة الروسية عن التفاعلات العالمية لم تدُم طويلاً. فعاد «السوفيات» الجدد إنما من دون ايديولوجيا مسجلين نصراً في سورية وتقدّماً في تركيا ومصر والهند وأميركا الجنوبية، ملحقين هزيمة كبيرة بالجيوبوليتيك الأميركي في قلب خطوطه الاستراتيجية الحمراء في الشرق الأوسط.
واستفاد الروس من عاملين: التحالفات الإيرانية الراسخة في العالم الإسلامي وتقدّم الصين الهائل في اكتساح الأسواق على حساب تراجع الاقتصاد الأميركي حتى انّ الركيزة الأساسية لأميركا في العالم الإسلامي، ايّ السعودية، تجتاز مرحلة تصدّع في مشاريعها في بلاد الشام والعراق واليمن ولبنان وعلى مشارف انهيار قيادتها الجديدة المتمثلة برأس حربة الأميركيين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان المتهم بقتل المعارض الصحافي جمال الخاشقجي والتسبّب بخسارة الأميركيين في المنطقة.
إنّ هذه النتائج تفسّر لماذا ذهب الأميركيون نحو التهديد بالانسحاب من اتفاقية الصواريخ النووية. فهم أرادوا إثارة ذعرٍ عالمي يخيف الصين مسبّباً الرعب لأوروبا المجاورة لروسيا، ومهدّداً الكرملين بسباق تسلح مفتوح ليعيد تذكيره بمصير الراحل الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي يجعل البيت الأبيض يعتقد أنّ أوروبا عائدة الى الانضباط داخل الجينز الأميركي مقهورة وذليلة.. ويحدّ من الدور الصيني في جنوب شرق آسيا.. ويُصيب الروس بذعر على المصير من سباق تسلّح مفترض يحتاج إلى إمكانات مالية لن تؤدي إلا إلى إفلاس روسيا.
هذا ما أراد البيت إفهامه للمنافسين والحلفاء. لكنه سارع بإيفاد بولتون إلى دولة القياصرة للتفاوض على أمورٍ أخرى… ما يؤكد على أنه يُخيف بها ليستحصل على مكاسب أخرى لها بعدٌ وحيدٌ وهو تأخير انهيار امبراطوريته حتى يتمكّن من اختراع آليات مبتكرة تعيد تجديدها أو ترميم المعطوب فيها على الأقلّ.
ماذا يحمل بولتون معه إلى موسكو؟
يتأبط ملفاً شائكاً يلوح في مقدّمته بأهمية البلقان وأوروبا الشرقية وضرورة حمايتها من التحرشات الروسية مركزاً على وحدة أوكرانيا وضرورة إعادة جزيرة القرم اليها.. ويحتوي ملف الكثّ الشوارب على ضرورة سحب الصواريخ الروسية المنصوبة قبالة صواريخ أميركية في القوقاز وأوروبا الشرقية، فما يجيز لواشنطن فعله لا يحق لموسكو مقاربته.. هذا هو الظاهر في ملف بولتون أو فجأة يكشف المستشار عن الأهداف الحقيقية المخبوءة في عمق حقيبته… ويتعلقان بالملفين السوري والإيراني… واليمني…
لجهة سورية، هناك إصرار أميركي على بقاء القوات الأميركية في شرق الفرات على أساس دعم كانتون كردي مستقلّ في المنطقة بذريعة الاستمرار في الحرب ضدّ الإرهاب. وهي حربٌ طويلة برأيهم.. وتأكيداً لهذا الإصرار موّلت السعودية الوحدات الأميركية في هذه المنطقة بمئة مليون دولار كبداية الى جانب خمسين مليوناً من الإمارات «الشقيقة» المستعدة لكلّ ما يطلبه معلمها الأميركي.
وللمزيد من إعاقة وصول الجيش السوري وحلفائه الروس وحزب الله إلى مجابهة الأميركيين في الشرق يعرقل البيت الأبيض الاتفاق التركي ـ الروسي «سوتشي» حول إخراج الإرهاب من إدلب، إلى جانب إصرار بولتون على مفاوضيه الروس بضرورة عدم الاقتراب من مراكز الجيش الأميركي هناك..
إلا أنّ أسوأ ما ينفذه الأميركيون في مناطق شرق الفرات هو ما كشفه الروس أمس لمستشارهم بولتون، فسألوه: لماذا تقصفون المدن والقرى في شرق الفرات من دير الزور إلى الرقة؟ وعندما لم تسعفه قدراته على الإجابة، قالوا له أنتم تقصفونها لمنع عودة أهلها السوريين إليها، وبذلك تبقى الغلبة لأصدقائكم الأكراد في «قوات سورية الديمقراطية».. فلو عاد السوريون إلى قراهم وبلداتهم لتحوّل الأكراد أقلية صغيرة ليس بوسعها تأسيس كانتون مستقل.
بولتون في روسيا إذاً للإصرار على بقاء الأميركيين في سورية.. والأسباب ليست كردية في عمقها بقدر ما تتعلق برغبة أميركية في انتزاع حصة من الحلّ السياسي فيها، وإعادة إعمارها بما يؤهّلها للمشاركة في إعادة الإعمار في المنطقة بأسرها، والتحاصص في ثرواتها غير المكتشفة من الغاز والنفط. ولأنّ الأميركيين يعرفون علاقة تراجعهم في الشرق الأوسط بتقدّم العلاقة الإيرانية مع دوله، فتراهم يصرّون على سحب المستشارين الإيرانيين من سورية ومقاتلي حزب الله وحلفائه. ويعتبر الأميركيون أنّ هذا المطلب استراتيجي الطابع وعلى علاقة بنيوية بوقف التراجع الدراماتيكي لإمبراطوريتهم في الشرق الأوسط رافعاً الضغط عن دول الخليج الموالية لهم والتي تستشعر خطراً إيرانياً عليها، يأتي من داخلها وليس من الخارج.. ما يقلقها متسبّباً لها بذعرٍ من احتمال التصدّع الداخلي..
فهل تمتلك روسيا حلولاً لما تشكو منه الامبراطورية الأميركية؟ مسألة اللعب باتفاقية الصواريخ تشبه حالة متصارعين يشتبكان عند حافة هاوية سحيقة، وتهدّد العالم بأسره عند حدوث هفوة صغيرة. لذلك لن يقبلها الروس. كما أنّ استعمال سورية وإيران وسيلة لمنع التراجع الأميركي ليس مقبولاً لدى موسكو ولا تستطيع هذه الأخيرة إقناع طهران ودمشق به لأنه ثمرة إنجاز في الميادين العسكرية استعملت واشنطن كلّ قواها للانتصار عليه ولم تتمكن من ذلك.
هكذا يعود بولتون الى إمبراطورية البلاد المتهالكة على أمل أن تتمكّن الدولة الأميركية العميقة من إيقاف عبث المجانين عندها ومنعهم من قيادة العالم نحو الدمار.