هل تملك واشنطن استراتيجية خروج؟
ناصر قنديل
– في التقرير التحقيقي الذي أعدّته لجنة فينوغراد كان أهمّ اللوم الذي أُلقي على حكومة إيهود أولمرت وقيادة جيش الاحتلال هو غياب استراتيجية خروج من الحرب. والمقصود في علوم الحرب والسياسة باستراتيجية الخروج هو البديل الحاضر لمواجهة فشل الرهانات التي تبقى بنسب احتمالية تقديرية افتراضياً يضعها صنّاع القرار، وأصحاب الخطط، ومهما بلغت نسبها المرتفعة يضع أصحابها احتمالات بنسبة ولو ضئيلة للفشل، فكل حرب وكل مواجهة تحمل خطأ التقدير، وتغير المعطيات والمفاجآت. حربا أميركا في العراق وأفغانستان وقبلهما حرب الفييتنام دلائل بائنة على ذلك، كما حرب تموز على لبنان 2006، والأهمّ الحرب على سورية التي حشدت لها كلّ المقدرات الأميركية وكل التحالفات وفشلت في تحقيق أهدافها.
– أظهرت الحرب على سورية أن واشنطن لا تقع في أخطاء «إسرائيل»، وأنها تمتلك دائماً استراتيجية خروج من المواجهة في حال ظهور إشارات الفشل، وأن مؤسسة القرار فيها أعمق من شخص رئيسها، وأقدر على المناورة والتبديل، ولو كان تبديل الرئيس وسياساته هو استراتيجية الخروج المناسبة، وجاء التوقيت مداهما في قلب ولايته، تتم إطاحته وتصنيع مبرراتها، لأن مصالح الدولة العليا أهم وأكبر من حسابات الرئيس، وكثيراً ما فعل الأميركيون ذلك، وفعلوا مرات كثيرة سوى ذلك، بأن صنعوا مسرحاً في منتصف الطريق قبل حلول الفشل، ليكون منصّة تفاوض بديلة على مساحة أوسع من قضية الحرب أو المواجهة، فغالباً ما كانت التفاهمات الأميركية الروسية ثمرة فشل أميركي في جبهة صراع، تتوّجها تفاهمات على مساحات أوسع من تلك الجبهة، تحتوي الفشل وتقتسم الغنائم الجديدة مع روسيا. ومرّات كانت تقتسمها مع حلفاء لها على حساب حلفاء آخرين، كما فعلت في الربيع العربي بحكام من بطانتها، سلمت رؤوسهم لحلفاء آخرين جدد. وكما فعلت مع نظام الشاه بتفاهمها مع نظام صدام في العراق، وكما فعلت مع نظام صدام نفسه بتفاهمها اللاحق مع إيران على تقاسم إدارة العراق الجديد.
– اليوم تدخل أميركا مرحلة تسمّيها بالحاسمة من المواجهة مع إيران، ومهما كانت نسب فرضيات النجاح الذي تتحدّث عنه واشنطن، فاحتمالات الفشل كبيرة، وإشاراتها تنطلق من غياب خيار الحرب عن طاولة صاحب القرار الأميركي من جهة، وفشل كيان الاحتلال بالحصول على هامش حركة عسكري ضد إيران في سورية كما كان يفترض وتفترض معه واشنطن، كمدخل للتفاوض حول الدور الإيراني في سورية كثمرة لتأثير العقوبات، وما يبدو من تطوّرات في وضع الخليج ومحوره الوضع السعودي، بعد فشل صفقة القرن الهادفة لقيام تحالف خليجي إسرائيلي بوجه إيران على خلفية إنهاء القضية الفلسطينية بشريك فلسطيني يقبل الشروط الإسرائيلية، وقد بات الأمر سراباً، ومع تدهور مكانة السعودية بتسارع ضغوط تحمّلها كرة الثلج الناتجة عن تداعيات مقتل جمال الخاشقجي والإجماع على مسؤولية رجل أميركا الأول في السعودية، ولي العهد محمد بن سلمان، عن إصدار أوامر القتل، والعقوبات نفسها لا تبدو مصدر اختناق اقتصادي لإيران في ظل التزام أوروبي بآلية للمتاجرة بالنفط الإيراني والسلع الأوروبية، ووجود عدد كبير من الدول التي تمردت على العقوبات أو نالت إعفاءات اميركية منها، ليكون السؤال أكثر من مشروع، بل مطروحاً بقوة على طاولة الإدارة الأميركية ومؤسسات صناعة القرار فيها.
– يتزامن فرض العقوبات مع تقارب روسي أميركي تعبر عنه سلسلة القمم المتفق عليها بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، خلال أيام وخلال أسابيع وخلال أشهر، وبالتوازي يتزامن فرض العقوبات، مع تسليم أميركي بتراجع مكانة الركيزة الرئيسية للمواجهة مع إيران التي تمثلها السعودية وموقع ولي عهدها، لدرجة بدء التسليم الأميركي بحقائق خليجية جديدة ستكون إيران على طرف التلقي الإيجابي لعائداتها، كحال وقف الحرب في اليمن، بتسوية يشارك فيها أنصار الله وينالون نصيباً جيداً من المكانة والدور بحصيلتها، وتدفع السعودية والإمارات ثمن الفشل فيها بتراجع في الدور والمكانة، من دون أن يستبعد الكثير من المحللين الأميركيين احتمال بدء عملية مديدة من الفك والتركيب للوضع الخليجي، قد لا تقتصر على إعادة رسم الأدوار، بل ربما تطال إعادة رسم الخرائط، وإيران هي الشريك الإقليمي الوحيد المحتمل.
– لا يزال العام 2019 عام رسم الخرائط الجديدة، ولا تزال إيران اللاعب الأبرز إقليمياً، ولا تشكل العقوبات أكثر من ورقة تفاوضية حول طبيعة الدور وحجمه، بينما على حلبة الصراع الدائر حول أحجام كل من حلفاء واشنطن، فلا يبدو فيه الخليجيون في مكانة متقدّمة على تركيا، التي تشكّل علاقتها المتينة مع إيران والمتمرّدة على العقوبات التي تستهدفها، مصدر قوة لتركيا مكانة ودوراً، ما يعني محدودية زمن الاشتباك لحساب أرجحية زمن التشبيك، عسى المتورطون بالاحتمالات الحماسية للعقوبات ينتبهون!