لبنان أزمة حكم أم انتقال بين نظامين؟
د. فريد البستاني
ربما لم ينتبه الكثير من القادة والسياسيين إلى أن التغيير الذي حمله الانتقال من قانون انتخاب يعتمد النظام الأكثري إلى قانون يعتمد النظام النسبي في تركيبة طائفية وسياسية تحمل خصوصيات وحساسيات كثيرة كحال لبنان، هو بمثابة تغيير للنظام، سيحمل معه الكثير من التعقيدات الجديدة والتحديات الجديدة، التي يصعب التأقلم معها، وسيحتاج وقتاً ليتحقق هذا التأقلم. كما ربما لا ينتبه الكثيرون أيضاً إلى أن الوقت الذي ينقفونه في انتظار ولادة الحكومة الجديدة هو من هذا النوع من السعي المرّ والصعب للتأقلم، وأنه يبدو صعباً ومستحيلاً دون أعراف جديدة، في بلد غالباً ما كانت الأعراف التي تحكمه أقوى من الدستور المكتوب، وتشكل التفسير الضمني المتعارف عليه لنصوص الدستور بعيداً عن مدارس الفقه الدستوري وما تبطنه النصوص.
علينا الاعتراف أن النظام الأكثري لم يكن نظاماً سيئاً لو كان التوازن الطائفي والسياسي داخل الطوائف قادراً على تحمّله، بمثل ما علينا أن نعترف أن الدعوات لإلغاء الطائفية كانت غالباً دعوات المسلمين لتفادي المطالبة الصعبة بتعديل الصيغة المعتمدة طائفياً والقائمة على المناصفة في ظل الاختلال العددي بين المسلمين والمسيحيين، وأنها كانت تواجه تعجيزياً بالدعوة للعلمنة الشاملة من المسيحيين دفاعاً عن صيغة التقاسم الطائفي القائمة على المناصفة، لكن علينا أن نعترف بالمثل بأن النظام النسبي الانتخابي هو نوع من التعديل في النظام لجهة إعادة تنظيم الأحجام بين الطوائف من جهة وداخل الطوائف من جهة أخرى، وأن المعارك التي خيضت حول تقسيم الدوائر الانتخابية كانت معارك غير مباشرة حول نوعية وحجم هذا التعديل بين الطوائف وداخلها، واذا كان العنوان الأوسع لهذا التنظيم مسيحياً إسلامياً، بما يضمن تركيز فوز أغلب النواب المسيحيين بأصوات ناخبين مسيحيين، ففي جانب منه كان إسلامياً داخلياً بين المذاهب للحدّ من تأثير تصويت ناخبي مذهب في انتخاب نواب مذهب آخر، بمثل ما كان الهدف مسيحياً الحدّ من تأثير تصويت ناخبي الطوائف الإسلامية في انتخاب النواب المسيحيين، وكل من المحاولتين نسبية بالقياس للتغييرات العددية التي لا يمكن وقف مفاعيلها طالما أن الانتخابات عملية عددية. وهذا المسار سيفرض في مراحل لاحقة ما بدا اليوم مجرد إرهاصات بسعي مماثل بين المذاهب المسيحية، تحت سعي هذه المذاهب لانتخاب نوابها بأصوات ناخبيها.
بالمقابل علينا الاعتراف أن الحكومات في النظام الأكثري التي كانت تستند تحت شعار حكومات الوحدة الوطنية إلى تمثيل الأكثريات الكبرى في الطوائف الفائزة في الانتخابات والتي لا يحكمها باستيلاد أقليات في طوائفها إلا التقسيم الجغرافي للدوائر الانتخابية الذي يبقي فرصاً لزعامات المناطق بالدخول إلى اللعبة السياسية، كانت تستند أيضاً إلى انتقائية سياسية في التوافق بين الأكثريات الطائفية على تمثيل الأقليات الطائفية والأقليات السياسية في الطوائف الكبرى بينما بدأت هذه القاعدة بالتزعزع مع الذهاب للنظام النسبي، حيث يشكل بقاء عنوان الوحدة الوطنية للحكومات شرطاً لتمثيل تصنع قواعده نتائج الانتخابات، التي أظهرت هذه المرة تبدلاً في طبيعة تمثيل طوائف أو مذاهب من طوائف، لكنها ستتكفل لاحقاً بإيقاظ كل الخصوصيات وتظهير سعيها للاستقلال وفرض الحضور وحجز المقاعد.
إن هذا يعني من جهة تفهم التأخير الحاصل في ولادة الحكومة واستيعابه بصفته نتاج الحاجة للوقت للتأقلم والإقرار بالتغيير الحادث في النظام، وحاجات الانتقال بين نظامين، لكنه يستدعي من جهة أخرى عدم الإغراق في الإطالة لأنه كلما طال الوقت ارتفع سقف المطالب، وظهرت مطالب جديدة، ودخلنا في فوضى سياسية يصعب الخروج منها، والوقوع في الفوضى سيحول أزمة الانتقال بين نظامين إلى أزمة نظام، فيصير الحديث عن الأعداد الطائفية ظاهراً ولو لم يكن في نية أحد، وستصير المثالثة التي تتقدم كاتهام نيات من البعض للبعض الآخر اليوم، واقعاً لا مفرّ منه، ويصير المؤتمر التأسيسي الذي يعتبره البعض فزاعة حاجة وضرورة.
نائب في البرلمان اللبناني