في اليوم العالمي لمكافحة الفساد
د. فريد البستاني
لا يحتاج اللبنانيون لمن يتخمهم بالمزيد من الكلام عن مظاهر الفساد ومخاطره، ولا عن حجم التردّي والترهّل في أداء الدولة ومؤسّساتها وإداراتها، وتراجع مكانة لبنان في التصنيفات الدولية للشفافية ومكافحة الفساد، وتأثير ذلك على الاقتصاد والاستثمار، كما لا يحتاجون إلى تكبير الحجر في المطلوب حتى لا يتحوّل الأمر إلى جعل تحقيق الهدف معجزة غير قابلة للتحقق، فالكلّ يعلم انّ مكافحة الفساد كما كلّ تحسين للأداء هو مسار وليس قرار، كما يعلم الجميع أيضاً أنّ ما يدرك كله لا يترك جله، فربط مكافحة الفساد بإلغاء الطائفية أو تحقيق العلمنة مطلب جميل ووجيه نظراً للحمايات الطائفية التي يحوزها الفاسدون، لكنه دعوة ضمنية للتعايش المديد مع الفساد وتجذره وتفشيه.
في اليوم العالمي لمكافحة الفساد ندعو للتركيز على تفعيل تشريعين هامّين يسهمان في رفع مستوى تصنيف لبنان دولياً من جهة، ويسهمان في تقييد وإضعاف حالات صرف النفوذ التي تشكل النسبة الأغلب والأخطر من ظواهر الفساد، وصرف النفوذ هو استغلال الوجود في الحكم أو ممارسة الشأن العام لتحقيق إثراء غير مشروع، ونحن ندرك سلفاً أنه بدون ثقافة عامة وجهوزية شعبية ونخبوية وإعلامية وإدارية لمواكبة حركة عامة تفتح عيونها على كلّ مناحي الفساد يبقى مفعول التشريعات نسبياً.
التشريع الأول هو تطوير لقانون من أين لك هذا، أو الإثراء غير المشروع، وجوهره إلزام كلّ من يتعاطى الشأن العام من نواب ووزراء ومدراء عامين للوزارات والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة، وكلّ من تولوا هذه المسؤوليات خلال العقود الثلاثة الماضية، بتقديم كشوفات تفصيلية عن ممتلكاتهم وثرواتهم قبل توليهم المسوؤلية وبعدها أو حتى تاريخ صدور القانون، وتبرير الفائض المحقق خلالها من الثروة العينية أو النقدية، وتضمين الكشوف تفويضاً برفع السرية المصرفية عن حساب المعني، على أن تقدّم هذه الكشوف لدائرة تسمّى دائرة الإثراء غير المشروع يتمّ إنشاؤها في ديوان المحاسبة، وتقوم هذه الدائرة بالتحقق والتدقيق بالكشوف والحسابات المصرفية لكلّ المعنيين، ثم تقوم بإعداد تقاريرها ورفعها سنوياً، لكلّ من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة، والمجلس الدستوري، والنيابة العامة المالية، والتفتيش المركزي، ومثل هذا التشريع الذي يجب أن يلحظ درجات القرابة التي يحق للدائرة المعنية طلب إخضاعها للرقابة المماثلة في حال التحقيق، سيضمن نسبة جدية من كشف حالات صرف النفوذ، لكنه سيضمن أكثر حالة ردع لعدم وقوع الكثير منها لاحقاً.
التشريع الثاني هو الخاص بالتمانع، أيّ عدم جواز الجمع بين ممارسة الوظيفة العامة والتعاقد بما يحقق صالح مالية مع الدولة ومؤسساتها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، والهدف هو نص يلزم كلّ صاحب شركة أو مؤسسة اقتصادية بصورة كلية أو جزئية يتولى الوظيفة العامة وزيراً أو مديراً، أن يمتنع عن مشاركة هذه المؤسسة أو الشركة عن التقدّم لنيل عقود ذات منفعة مالية مع الدولة ومؤسساتها، أو أن يرتضي إخضاع أيّ عقود ناجمة عن الإخلال بالتمانع، لمراقبة دائرة الإثراء غير المشروع في ديوان المحاسبة، المفترض إنشاؤها بموجب التشريع الأول، وقيمة هذا التشريع أنه بذات الدرجة التي سيضمن من خلالها الحدّ من حالات صرف النفوذ عبر الرقابة والتدقيق، والإمتناع النسبي لمن يتولون الوظيفة العامة عن إقامة أيّ تداخل بين ممارستهم للوظيفة ومصالحهم الخاصة، سيضمن أيضاً نوعاً من الردع الضمني لمن يتولى الوظيفة العامة عن السعي لتحقيق مصالح خاصة من موقعه في الوظيفة.
في اليوم العالمي لمكافحة الفساد، مشروعان يقتضي وضعهما قيد النقاش كأفكار تسهم في تقديم مقاربة واقعية لمواجهة مرض عضال يكاد يفتك بالدولة والإقتصاد، أملاً أن يسهم النقاش في بلورة أمثل وأدق، ليتسنى رفع مكانة لبنان دولياً في هذا المجال، وتحسين أداء مؤسسات الدولة ووقف بعض الهدر فيها.
نائب في البرلمان اللبناني