قمة وارسو لاستنزاف الخليج حصرياً…

د. وفيق إبراهيم

يعمل الأميركيون بسرعة لحماية مكانتهم الدولية، فلا يجدون إلا بلدان الخليج المستسلمة دائماً لمطالبهم والتي تمتلك طاقات هائلة في الاقتصاد والدين واستراتيجية الموقع قبالة إيران.

الواضح أنّ حاجتهم الى هذه الإمكانات ازدادت مع تراجع المشاريع الأميركية في سورية والعراق ولبنان وتعثرهم في اليمن وتخبّط حلفائهم بأنواع ثقيلة من الضغوط الداخلية والخارجية.

لم يجد الأميركيون وسيلة لمعالجة ضمور أهميتهم إلا باختراع قمة لبلدان الخليج ومصر والأردن في العاصمة البولندية وارسو الشهر المقبل.

فما جديد واشنطن حتى تستدعي حلفاءها «لحلف جديد» هدفه «تدمير إيران» إنما بلغة سياسية تزعم أنها تريد تغيير سلوك إيران والقضاء على نفوذها «الإرهابي» في الإقليم.

جديد هذه القمة بما تشكله من حضور «إسرائيلي» سياسي كبير ينهي القضية الفلسطينية معلناً تحالفاً عربياً إسرائيلياً معادياً لإيران، وهذا يشكل حلاً يستطيع الأميركيون بموجبه تسليم المنطقة الى هذا الحلف الطامح الى ضمّ تركيا أيضاً، فتستطيع واشنطن ممارسة فنّ «القيادة من الخلف» من دون خوفٍ على مزيد من تراجع أدوارها.

لكن تحقيق هذا الحلم يتطلب إيجاد حلول لعديد من الملفات الشائكة وأولها مسألة الصراع بين السعودية والإمارات مع دولة قطر.

وهي خلافات أسّس لها الأميركيون وتركوها من دون السماح بتفاقمها او بانتهائها.

لأنهم استفادوا منها مادياً من خلال حاجة بلدان الخلاف إلى التأييد الأميركي، فتطاير المال الخليجي نحو مكاتب الدراسات والإعلام ومراكز التحشيد والدعم وأعضاء الكونغرس الأميركي بمجلسيه الشيوخ والنواب وصفقات السلاح الفائض عن الحاجة، والصفقات من كلّ الأنواع لكسب تأييد الأميركيين.

إلا أنّ البيت الأبيض يجد نفسه اليوم محتاجاً الى إنهاء هذا الخلاف لإنجاز وحدة الخليج الضرورية لمجابهة إيران، فهل هذا ممكن؟

قد يكون متعذّر التحقيق عبر المصالحات الثنائية بين دول النزاع، لذلك فاجأ وزير الخارجية الأميركي الجميع بمطالبتهم بتمتين مجلس التعاون الخليجي كهيئة تمثل أعضاءه في مجابهة إيران.

وهذا بمثابة «قفز رشيق» فوق نقاط الخلاف خصوصاً أنّ جولة بومبيو الخليجية اكتشفت انّ هناك استعداداً خليجياً عاماً لمناصبة إيران العداء السياسي لدعمها منظمات إقليمية إرهابية، كما يزعمون.

أما لجهة دعم مشروع حرب على إيران فتحفظت ثلاث دول هي قطر وعُمان والكويت الى درجة الرفض بالمشاركة، حتى أنّ قطر تساءلت أمام بومبيو كيف تحارب إيران وهي الدولة الوحيدة التي فتحت لها خطوطاً بحرية وجوية أنقذتها من الحصار السعودي الإماراتي؟

ويحتاج الأميركيون أيضاً الى إنهاء تداعيات اغتيال الإعلامي الخاشقجي بشكل لا تصيب ولي العهد محمد بن سلمان ومجمل القيادة السياسية السعودية.

وهذا صعب في ظلّ استنفار الكونغرس الأميركي الذي يتهم ولي العهد بالاغتيال ويسانده مجمل القوى الأوروبية في المعارضة والموالاة، ما يشكل عائقاً كبيراً يحول دون قيادة خليجية لحلف وارسو.

وكيف يقود الخليج المنطقة وهو المتورّط بحرب اليمن وقتل عشرات الألوف من أهله؟

لعلّ هذا يفسّر الإصرار الأميركي على إنهاء هذه الحرب او منع التصعيد في عباراتها إذا لم يتمكّن اتفاق السويد من انتزاع الساحل الغربي اليمني من أنصار الله الحوثيين؟

لا بدّ هنا من الإشارة الى انّ دول الخليج باستثناء قطر لا تقبل بدور تركي في حلف وارسو، لأنّ أنقرة تمثل في السياسة مشروعاً للاخوان المسلمين لا يقبل بالأنظمة الملكية على الطريقة الخليجية.

بالإضافة الى انّ الحجم الكبير لتركيا لا يسمح لها بالرضوخ لقيادة سعودية لقمة وارسو المرتقبة.

اما المشكلة الأكبر للتحالف الخليجي فهو العراق المتحالف بغالبيته مع إيران ولن يكون بوسع بغداد السكوت عن استهداف غير مبرّر لإيران، وهي قادرة على إرباك المحاولات الخليجية الأميركية بتحريك تنظيماتها الشعبية ومن دون الاستعانة بإمكانات الدولة العراقية.

فهل ينجح البيت الأبيض بتحييد كلّ هذه العقبات لتسهيل الأدوار المطلوبة من قمة وارسو؟

ألم يسبق لترامب أن عقد قمة في الرياض ضمّت 65 دولة وللأهداف نفسها؟ وتمخضت عن صفقات بأكثر من 500 مليار دولار مع السعودية؟

وأقلّ منها بقليل مع قطر والإمارات والكويت؟

يجب اذاً البحث عن الأهداف الفعلية لقمة وارسو انطلاقاً من عجز أطرافها عن شنّ حرب على إيران وهي حرب لا يريد الأميركيون أنفسهم تحقيقها لأنها تفتح على صراعات عالمية واسعة، قد تجعل من الروس والصينيين أطرافاً فيها بمنطق الخوف من الخطر الأميركي المتدحرج.

بما يكشف أنّ قمة وارسو هي وسيلة أميركية لتجميع الأصدقاء والحيلولة من دون بحثهم عن تغطيات دولية جديدة خصوصاً من المحور الروسي الصيني.

إلا أنّ هذا لا ينفي أنّ الأميركيين يراهنون على تشديد الحصار على إيران من ناحية الخليج والقسم الأكبر من دول العالم للتسبّب بإفلاسها الذي يؤدّي تلقائياً الى اضطرابات شعبية داخلية فيها.

لذلك قال بومبيو في خطابه الأخير: «نريد الاستماع الى أصوات الشعب الإيراني» وكان يقصد ضرورة ولادة تحركات شعبية إيرانية تؤدّي الى إسقاط إيران.

الرهان الأميركي إذاً هو على دور خليجي اقتصادي يوزع الهبات والمساعدات على دول المحور الأميركي في العالمين العربي والإسلامي ويعمل على مزيد من الفرقة الدينية بين السنة والشيعة والعرب والفرس مؤمّناً للأميركيين قواعد ومواقع استراتيجية قبالة إيران مباشرة، في المقابل تستفيد دول الخليج من الحماية الأميركية الكاملة.

هذه هي مرامي قمة وارسو التي لن تشكل إلا أدوات جديدة لترميم النفوذ الأميركي على حساب المزيد من التراجع العربي.

اترك تعليقاً

Back to top button