أميركا تحشد لـ«مؤتمر بولندا»: ما الخلفية وما المتوقع؟

العميد د. أمين محمد حطيط

بعد أيام من سياسة الكر والفر الأميركي التي أعقبت قرار ترامب بالانسحاب من سورية، السياسة التي هدفت لإنتاج بيئة من الغموض والإرباك المعطل والمعرقل للأطراف المعادية لأميركا ومنعهم من اتخاذ التدابير التي تحفظ مصالحهم، قرّرت أميركا إيفاد وزير خارجيتها الى الشرق الأوسط، في مهمة ظاهرها طمأنة «الحلفاء» حول المرحلة التالية، والتركيز على العداء لإيران والبحث في سبل مواجهتها، مواجهة لا تكون بالضرورة عسكرية بل تكون على الأرجح من طبيعة سياسية واقتصادية او لنقل مواجهة من غير نار تلهب الجبهات.

وفي جولته ركّز بومبيو على دول محدّدة في المنطقة كان قد زار بعضها مسؤول الأمن القومي الأميركي جون بولتون الذي كما رشح عنه، أنه فشل في مهمته التي قيل إنها رمت الى تحقيق 3 أهداف رئيسية، أولها طمأنة «إسرائيل» الى حجم الدعم الأميركي الذي لن يسمح بالمسّ بمكانتها الأمنية والعسكرية والثاني حماية الأكراد في سورية ومنع تركيا من المس بهم رغم تسليم أميركا بالدور المركزي لتركيا فيها، والثالث توجيه الاهتمام نحو إيران والتركيز على وجوب التكتل الإقليمي والدولي لمواجهتها.

في نهاية جولته تبين لبولتون أن تركيا لم تقتنع ولم تلتزم بما يجعل الأكراد مطمئنين الى مستقبل مشروعهم الانفصالي برعاية أميركية وبالتالي فإن ما تحقق لن يوقف توجه الأكراد نحو الحكومة المركزية في دمشق طلباً للحماية من تركيا، وكذلك رأى أن «إسرائيل» لم تكن في راحة من أمرها رغم ما قيل لها لذا فإنها أكدت على امتعاضها من الانسحاب الأميركي الذي سيجعلها وحيدة في الميدان تقوم بمهام معسكر العدوان على سورية لأن تركيا المتبقية الأخرى في الميدان، تمارس الزئبقية في المواقف والتعددية في الوجوه بحيث لا يمكن الركون الى سياستها أهي مع حل لأزمة سورية أم ضده؟ أو هل هي في معسكر العدوان كلياً أم لها مشروعها الخاص فردياً؟ أما في الهدف الأخير فيبدو ان من استقبلوه كانوا فئتين: فئة المرحبين بالتكتل ضد إيران وفئة المترددين. وهنا كان على بومبيو ان يعالج الفشل بنفسه أو عبر مبعوثه دافيد هيل.

وخلال جولته في المنطقة، وبعيداً عن الإسهال الكلامي وفي المواقف التي أطلقها بومبيو في مصر وغيرها من الدول التي زارها كان واضحاً أن أميركا تريد احتواء التداعيات التي خلفها قرارها بالانسحاب من سورية وهو القرار الذي أزعج بل أغضب كلاً من «إسرائيل» ودول الخليج الى درجة مطالبتهم بالعودة عنه او تجميد تنفيذه، وأن أميركا تريد أن توحي بأن تحريك جنودها من قواعدهم الى خارج سورية لا يعني انسحاباً من المنطقة وتركها بيد الآخرين أكانوا حلفاء او خصوم ام أعداء، وأخيراً أراد بومبيو «التهويل بخطر إيران» والتحشيد لمواجهته لأنه يرى في ذلك خدمة لأهداف أميركا الاستراتيجية وتأميناً لمصالح «إسرائيل».

من أجل ذلك تصرف بومبيو وكأنه موفد رئاسي أميركي للدعوة الى «مؤتمر بولندا» الذي سيعقد في وارسو في 13/2/2019 لتعلن فيه أميركا عن انشاء تكتل إقليمي بقيادتها لمواجهة إيران وحلفائها من كيانات وتنظيمات وأحزاب عسكرية أو شبه عسكرية أو سياسية عاملة في المنطقة ضد المشروع الاستعماري الصهيوأميركي، وهنا يطرح السؤال حول مؤتمر العداء هذا، وحول قدرته على مواجهة إيران والتنظيمات المقاومة التي في طليعتها حزب الله في لبنان، وما هي وسائله في ذلك؟ ثم وهذا هو الأهم هل تستطيع أميركا أن تحقق أغراضها من هذا المؤتمر؟ وهل هناك اهداف حقيقية خلفه غير ما يعلن؟

للإجابة على ما ذكر نقول: أولاً بالنسبة لقدرات المؤتمر وإمكاناته العسكرية في مواجهة إيران، إن مجرد التدقيق بإمكانات المشاركين الأعضاء ومقارنتها مع تلك التي بيد إيران نستطيع أن نصل الى استنتاج سريع باستبعاد المواجهة العسكرية لأكثر من سبب وسبب ليس أقلها عدم جهوزية «إسرائيل» لحرب شاملة في المنطقة، وعدم مصلحة أميركا في حرب الآن وهي التي تعمل في عهد ترامب وبشدة بسياسة «الجدوى العملانية والاقتصادية» من أي تدبير عسكري تتخذه، وفي حساب الجدوى تخرج أميركا بنتيجة قاطعة أن مصلحتها تكمن بالإحجام عن أي حرب ليس مع إيران فقط، بل مع أي طرف لا يكون قد أعدّ العدة لهجوم جدّي أكيد على أميركا الأمر غير المتوفر مطلقاً في الوضع القائم. وإذا أخرجنا أميركا و»إسرائيل» من دائرة إمكان شنّ الحرب على إيران، فإننا لا نكون بحاجة لمناقشة قدرات الباقيين الذين يصحّ وصفهم بتكتل العجزة ذوي الإخفاق العسكري المهزوم.

ثانياً: لا نعتقد ان بوسع «مؤتمر بولندا» ان يواجه إيران بغير ما يواجهها أعضاؤه الآن من وسائل مركبة من إعلام تحريضي وحصار اقتصادي وعقوبات مالية متعددة، لكن الوسائل المعمول بها الآن لا تستدعي انعقاد مؤتمر لأجل نفاذها وهي مطبقة ومنفذة الى الحد الأقصى الممكن من قبل القائمين بها. فإذا عطفنا هذه النتيجة على استبعاد العمل العسكري كما ذكرنا، نخلص الى القول بأن مؤتمر بولندا ضد إيران سيكون من غير نتيجة أو سيخرج المشاركون فيه خالي الوفاض، فهل أميركا التي تعرف قطعاً هذه النتيجة تقدم على عمل تعلم نتيجته المعدومة هذه؟

ثالثاً: لا نعتقد أن أميركا على قدر من غباء يدفعها الى عمل من غير نتيجة، أو أنها تدعو الى مؤتمر تعلم أنه من غير جدوى، لذلك فإننا نعتقد أن أميركا تستغلّ الموضوع الإيراني والعداء غير المبرّر لدى البعض لإيران من أجل تحقيق أهداف غير الأهداف المعلنة وهي الأهداف الحقيقية للمؤتمر والتي نرى أنها:

بلورة استراتيجية احتواء فشل المشاريع الغربية في الشرق الأوسط والتغطية عليها خاصة مشروع «صفقة القرن» الذي أعدّ لتصفية القضية الفلسطينية ومشروع «إسقاط سورية» الذي انطلق لإسقاطها وإسقاط محور المقاومة ومن أجل زرع الأمل في نفوس أدوات المشاريع هذه بأن هناك خططاً بديلة لاستكمال السعي الأميركي للسيطرة على المنطقة.

إنشاء صيغة تحالفية تمنع تفكك جبهة الأدوات الأميركية في المنطقة، تحالف يحتوي تداعيات الهزيمة الاستراتيجية الكبرى التي حلت بالتحالف الدولي الذي تقوده أميركا ضد سورية، حيث إن معسكر العدوان على سورية وصل الآن الى الحقيقة المرة التي أجبرت أميركا على قرار الانسحاب من سورية وستتبعها طبعاً فرنسا وبريطانيا، وبما ان الهزيمة تفكك تحالف المهزومين، فإن أميركا ترى وجوب إيجاد صيغة للإبقاء على هذا التحشد.

إنشاء تكتل إقليمي برعاية أميركية وعضوية «إسرائيل» مع دول عربية يمنح «إسرائيل» لأول مرة في تاريخها فرصة العضوية المعلنة والصريحة في تحالف مع دول عربية ويعترف بها مكوّناً أساسياً من مكونات المنطقة الى جانب الدول العربية، اعتراف يتجاهل القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني بالعودة وبإقامة دولته المستقلة.

إنشاء إطار إقليمي بقيادة أميركا تناط به ظاهراً مهمة مواجهة «إيران الشيعية «او الإعداد لمواجهتها بقوة عسكرية يشترك فيها الإسرائيلي مع «السني العربي» إعداداً يكون بتمويل عربي مستدام يوفر لترامب الأموال الممكنة لتسليح هذا التحالف دون أن يكون هناك إلزام فعلي بالذهاب الى حرب مع إيران. إنه قناة استنزاف الأموال من الخليج خدمة لأميركا.

اما إيران التي يتخذها المؤتمر هدفاً له او وجهة لتفجير العداء بوجهها، فإنها كما يبدو غير مشغولة البال بشكل جدّي بالمؤتمر وبما يخرج عنه، ليقينها الذي نوافقها عليه وبكل تأكيد بأن الفشل هو النتيجة الحتمية لهذا المؤتمر ولهذا التحالف، يقين يستند الى ظروف القوة الذاتية والموضوعية التحالفية ومسلح بالكمّ الكبير من الانتصارات التي حققها محور المقاومة على صعيد المنطقة. ولهذا نراها تردّد كما قال السيد حسن نصرالله في تقييمه لمؤتمر شرم الشيخ ضد حزب الله والمقاومة، تردّد الآية الكريمة «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل» دونما اكتراث بهذه العراضات الجوفاء مطمئنة الى ان «جوقة بولندا» الضفدعية لن تقوى على فعل شيء مؤثر ضدها او ضد مكونات محور المقاومة. وها هي البداية من لبنان حيث فشل هيل كما يبدو في التحشيد المطلوب ضد حزب الله او عزله بعد أن لمس باليد ان الحزب بات في وضع لا محلّ للقلق فيه على سلامة المقاومة وقوتها، وأن للمقاومة جمهوراً له من القوة والبأس فوق ما تظن أميركا.

أستاذ جامعي وباحث استراتيجي

اترك تعليقاً

Back to top button