ماذا بعد ولادة الحكومة؟ .. هل يستردّ لبنان سيادته المفقودة؟
محمد حمية
تبين خلال العامين الأولين من العهد الرئاسي الحالي بما لا يرقى الى الشك انتهاج لبنان سياسة تحييد الملفات المتفجرة عن الواجهة وإبعادها عن طاولة مجلس الوزراء والنأي بالنفس عن حقل الألغام الإقليمي، وأبرز دليل أن معظم القرارات اتُخذت بالتوافق السياسي لا بالتصويت إلا ما قلّ وندر.
واستمرت هذه السياسة أيضاً بعد الانتخابات النيابية الأخيرة وخلال فترة تكليف الرئيس سعد الحريري، وعندما كانت على لبنان مواجهة أي استحقاق داخلي معين ذات امتدادات اقليمية ودولية، كان الحريري يستنفر طالباً النجدة من رئيس الجمهورية لاستنقاذه من الإحراج مع حلفائه الخارجيين، فيُصار الى تأجيل أي ملف «حرجٍ للغاية» كرمى لعيون الشيخ سعد رغم أن معظم تلك القضايا ذات صلة وثيقة بمفهوم السيادة الوطنية التي من المفترض أن تكون أمراً جامعاً وخارج الخلافات السياسية التقليدية.
أما السبب الذي كانت تتذرع به «بيت الوسط»، فهو صعوبة اتخاذ قرار في ظل حكومة تصريف أعمال وتأجيله الى حين تأليف حكومة جديدة وأصيلة.
قد تجد حجج رئيس المستقبل ما يبررها في بلد الديموقراطية التوافقية والميثاقيات الطائفية والحسابات الإقليمية والدولية، لكن لا يمكن المساومة بمبدأ السيادة، فهو المدماك الأساس لبناء الدول وروح الدساتير وجوهر القوانين لدى معظم دول العالم ومكرس في القانون الدولي واتفاقية فيينا للعلاقات الدولية.
فخلال العامين المنصرمين يتبدّى بوضوح أن لبنان لم يصُن سيادته، باستثناء قرار رئاستي الجمهورية والمجلس النيابي بإنهاء الوجود الإرهابي في الجرود رغم الممانعة الخارجية والداخلية وتكفل الجيش بذلك بدعم من الجيش السوري والمقاومة التي لم تنفُض إصبعها عن زناد التصدي للعدوان الاسرائيلي.
فأين تخلت الدولة عن سيادتها؟
بدا واضحاً أن ملف العلاقة مع سورية كان رهن تعاطي قوى داخلية بخفة شديدة الى حد تجاهل المصالح اللبنانية وتغليب المصالح الشخصية والإملاءات الخارجية، الى درجة تهديد الحريري بالاعتذار إن فُرِض عليه الذهاب الى دمشق، أما لبنان فرضخ للضغوط الأميركية والعربية بمنع دعوة سورية الى قمة بيروت وفرملة أي انفتاح لبناني باتجاه سورية. وهذا سر زيارة دايفيد هيل الى لبنان بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية الأميركي الى المنطقة للغاية نفسها.
فهل يحصل ذلك في مكان غير لبنان على الكرة الأرضية؟ فها هو الأردن الذي يواجه الظروف نفسها التي يواجهها لبنان، يوجه دعوة رسمية الى سورية لحضور أعمال مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي وتتسلح عمان بدعوتها تلك بالحديث عن عمق المصالح والترابط بين الدولتين بما يستحيل الفصل بينهما.
لم يكن الأمر أفضل حالاً بتعاطي الحكومة ورئيسها وفريق 14 آذار مع أزمة النزوح السوري، حيث باعوا السيادة في سوق المصالح الدولية على حساب لبنان واقتصاده، فتحوّلت مفوضية شؤون اللاجئين أداة دولية للحؤول دون عودة النازحين، بينما تولت المؤتمرات الدولية مهمة تثبيت مصطلح العودة الطوعية وتقديم إغراءات مالية للبنان مقابل الإدماج الاقتصادي للنازحين فيه. فهل تنازلت تركيا وأوروبا عن سيادتهما واحترمتا حقوق الانسان لكي يفعل لبنان؟
أما لجهة استباحة الطائرات الاسرائيلية الحدود من أربع رياح الأرض، فيستجيب المسؤولون للفيتو الأميركي بمنع تزود جيش الوطن بدفاعات جوية من دول صديقة كروسيا وايران وغيرهما قادرة على صد العدوان، فما معنى استراتيجية دفاعية تُخضِع سلاح المقاومة الى قرار الدولة بلا امتلاك الجيش صواريخ جوية تعطل العربدة الاسرائيلي في لبنان؟
أما ما يُظهر المزيد من تآكل السيادة هو خروج المجلس الأعلى للدفاع في اجتماعه الأخير بـ «لاقرار» إزاء التعامل مع الخروق الاسرائيلية على الحدود، ما يسجل مرة جديدة خضوع القرار اللبناني لضغوط أميركية بعد والسؤال المُلح برسم «سيد السرايا» و»الرئيس الأصيل» للحكومة، لماذا لم تسلح اميركا الجيش بأسلحة كافية للدفاع عن لبنان؟ ولماذا لا يبحث لبنان عن مصادر تسليح بديلة؟
أما في «السيادة المصرفية» فحدّث ولا حرج، فالقطاع المصرفي ومعه المصرف المركزي معاً باتا ناظرين لقرارات العقوبات الاميركية على حزب الله وعلى مقربين منه، فبحسب مصادر مطلعة لـ»البناء» فإن «واشنطن ربطت معظم القطاعات المصرفية في العالم ببرامج الكترونية، بحيث يتيح للمصرف المركزي الأميركي تتبع حركة الحسابات في مصارف العالم وتلقي داتا المعلومات التفصيلية عن أي حساب مع فرض قيود كبيرة على فتح أي حساب لبناني»، كما كشفت أن «المصرف المركزي يطبّق كل ما تطلبه الأجهزة الأميركية لناحية تزويدها بالمعلومات الدقيقة عن الحسابات المصرفية اللبنانية»، فالوقاحة الاميركية بلغت بحسب معلومات لـ»البناء» حد وضع «فيتو» على إيلاء الطائفة الشيعية وزارة المال وإن لحركة أمل قبل أن يعود دايفيد هيل ويسقط هذا الفيتو بعد اجتماعاته الأخيرة مع الحريري والوزير علي حسن خليل تلقى خلالها ضمانات حول كيفية تعامل الوزارة مع العقوبات الأميركية السابقة واللاحقة! وما وجود مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب مارشال بيلينغسلي في لبنان في ربع الساعة الأخير لتأليف الحكومة إلا للتدخل في حسم بعض الحقائب، فالمعلومات تشير الى أنه انتزع ضمانات من مسألة تولي حزب الله الصحة وبتعامل وزارة الأشغال «الجوي» مع سورية وإيران!
أما أحد أشكال «الاغتصاب الطوعي» للسيادة فهو قطاع النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية، فلماذا لم يتمكن لبنان حتى الآن من استخراج نفطه وغازه؟ وما دور الدول المنتجة لهذين الموردين الاستراتيجيين بتجميد هذا الملف؟ وما علاقة الهبات والمساعدات الدولية والعربية وآخرها الوديعة القطرية بإبقاء لبنان ثروته في باطن الأرض؟
تقول مصادر مطلعة لـ»البناء» إن «دولاً حذرت مسؤولين كباراً في الدولة من أي خطوة اضافية باتجاه استخراج النفط والغاز، مقابل وعود بمساعدات مالية، والسبب خشيتها من الإخلال بالتوازن في سوق النفط والغاز لجهة العرض والطلب والأسعار، ما يقلص الأهمية الاستراتيجية للموردين في تلك الدول.
أما الآن وبعد ولادة الحكومة هل يسترد لبنان سيادته المفقودة؟ أم ستؤدي الملفات الخلافية الى شل عمل الحكومة وصولاً الى تفجيرها؟
يبدو أن الحكومة الجديدة ستدخل في أنفاق المجهول، أما حسم القضايا الكبرى فرهن التطورات في الاقليم لا سيما في الملف السوري، ما يؤكد بأن الأزمة لم تكن أزمة حكومة بل أزمة نظام وأزمة طوائف ولا سبيل لإخراج لبنان من أزماته إلا بإحداث تغيير في طبيعة النظام اللبناني القائم على الطائفية، فهل من ينصُت للرئيس نبيه بري وللقوى القومية والوطنية في الانتقال الى الدولة المدنية؟