الثورة الإسلامية في إيران بعيون فلسطينية استراتيجية…!
محمد صادق الحسيني
أربعون ربيعاً ولا تزال الثورة حية في صدور أهلها كما في محيطها الخارجي وكأنها ولدت بالأمس او اليوم، وممتدة في تأثيراتها وتداعياتها الزلزالية من أعماق أوراسيا حتى سواحل المتوسط وكلّ المياه الساخنة من هرمز الى باب المندب…!
فعلى الرغم من مرور أربعين عاماً على انتصار الثورة الاسلامية في إيران إلا انّ تداعياتها وتأثيراتها العميقة، في موازين القوى الاستراتيجية في العالم أجمع وليس في غرب آسيا وحدها، لا زالت متواصلة، بديناميكية عالية الوتيرة حاملة وسائل تجددها الذاتي بداخلها، الامر الذي يؤكد ان لا خوف لا على الثورة ولا على أهدافها، التي تمثلت منذ اللحظة الاولى بالاضافة الى إطاحة الاستبداد الداخلي في مقاومة الهيمنة الاستعمارية الأميركية على مقدرات الشعوب في العالم وتحقيق الحرية والسيادة والاستقلال الوطني الكامل لكافة شعوب الارض.
ومن الجدير بالذكر، في هذا السياق، انّ الثورة الاسلامية في إيران قد جاءت كحلقة من حلقات الصراع الدولي، بين القوى الاستعمارية وقوى التحرّر الوطني، سواء في ما يسمّى بالشرق الأوسط أو في غيرة من بقاع الأرض. وقد جاء انتصار هذه الثورة بعيد ضربة كبرى تلقتها حركة التحرّر الوطني العربية، تلك الضربة التي تمثلت في زيارة السادات الخيانية للقدس المحتلة سنة 1977، ثم توقيعه اتفاقية الخيانة في كامب ديفيد بتاريخ 17/9/1978.
حيث إنّ هذه الاتفاقية التي احدثت زلزالاً استراتيجياً، سياسياً وعسكرياً، في المنطقة والعالم، وذلك من خلال خروج مصر من مشهد المواجهة العسكرية العربية مع العدو الصهيوني، وبالتالي مع الولايات المتحدة، التي كانت تستميت في محاولاتها لاستعادة بعض الهيبة السياسية والعسكرية، التي فقدتها بعد هزيمتها المدوية في حرب فيتنام عام 1975.
فخروج مصر من المواجهة ادى الى خلل استراتيجي، في موازين القوى الشرق أوسطية ، كان لا بد من اصلاحه وبأقصى سرعة، لإعادة التوازن الاستراتيجي، بمعناه الشامل وليس من خلال مقارنة حسابية لأعداد الدبابات والطائرات، الى مسرح المواجهة، وذلك حفاظاً على ما تبقى من القوى المنخرطة في قتال العدو الصهيوني الإمبريالي، مثل سورية والثورة الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين.
ولَم تتأخر القوى الثورية المعادية للإمبريالية في الردّ، على الخلل الذي أحدثته سياسات الخيانة الساداتية، حيث شرع الشعب الإيراني العظيم بوضع برنامجه الثوري الإسلامي قيد التنفيذ الفعلي، الأمر الذي أدى الى حصول زلزال طهران في بداية عام 1979 والذي ادى الى اقتلاع عرش شاه إيران، العميل للولايات المتحدة و إسرائيل والذي كان يمارس ليس فقط دور شرطي هذه القوى الاستعمارية في المنطقة وقمع الشعوب العربية، بل إنه كان قد حوَّل إيران قاعدة تجسس ضخمة ضد الاتحاد السوفياتي، صديق حركات التحرر العربية والعالمية. ذلك الزلزال الذي أفضى الى انتصار الثورة الاسلامية وعودة قائدها العظيم، سماحة آية الله العظمى الخميني، من منفاه في باريس الى طهران بتاريخ 11/2/1979.
وها هو الرئيس الاميركي الحالي، دونالد ترامب، يحاول اعادة عجلة التاريخ الى الوراء، من خلال تصريحاته لبرنامج واجِهة الأُمة التلفزيوني الاميركي Face the Nation الذي تمّ بثه أمس، والذي أكد فيه ترامب على ضرورة بقاء القوات الاميركية في العراق بهدف مراقبة إيران…!
حيث كان يشير الى الوجود الأميركي في قاعدتي عين الأسد واربيل العراقيتين. مما يعني ان الولايات المتحدة لا زالت تنفذ السياسات العدوانية السابقة نفسها والتي كانت تتبعها إبان الحكم الشاهنشاهي في إيران.
وقد شكل هذا الانتصار في إيران ضربة استراتيجية كبرى للمشاريع الاستعمارية في المنطقة، وفِي مقدمتها المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين المحتلة، حيث كانت دولة الاحتلال الإسرائيلي حليفاً استراتيجياً لصيقا لنظام شاه إيران، لكن الثورة الاسلامية اغلقت السفارة الصهيونية في طهران وحوّلتها سفارة لدولة فلسطين.
وهذا ما أكده الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات أبو عمار في أول لقاء له مع قائد الثورة الاسلامية في طهران يوم 17/2/1979، عندما قال: إن جبهة المقاومة أصبحت تمتد من صور الى خراسان… فماذا يعني هذا الكلام من ناحية المفاعيل الاستراتيجية؟ على صعيد موازين القوى في ميادين المواجهة.
أولاً: إن سقوط نظام شاه إيران قد خلق أفقاً استراتيجياً واسعاً للقوى المعادية للامبريالية في المنطقة العربية بشكل عام، ورغم اضطراب العلاقة بين دول وتنظيمات وأحزاب وفصائل تلك القوى آنذاك، كما يتضح من طبيعة التوتر الذي كان يسود العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية وسورية مثلاً…!
وعلى الرغم من التناقضات الداخلية، بين أطراف حلف المقاومة آنذاك، إلا ان الدور الإيراني حافظ على حيويته وديناميكيته، من خلال تقوية علاقات الجمهورية الاسلامية الإيرانية مع كافة أطراف قوى الثورة والمقاومة اللبنانية والفلسطينية في لبنان، إضافة الى بدء علاقة تحالف إيرانية سورية متينة شملت مختلف مجالات التعاون. الأمر الذي شكل ارضية صلبة لتشكيل محور مقاومة متجانس ومتناغم.
ثانياً: كما ان انتصار الثورة الاسلامية في إيران قد أوجد، ومن الناحية الموضوعية المجردة والبعيدة عن العواطف والمواقف الشخصية، وبالنظر الى العقيدة الجهادية الثابتة التي اعتمدتها الجمهورية الاسلامية في إيران، قد خلق ليس فقط عمقاً استراتيجياً لقوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وانما خلق قاعدة استراتيجية ثابتة وقوية ومبادرة وقادرة يمكن الاعتماد على دعمها لتامين الاستمرارية في المقاومة وتطوير عملها التحرري.
وهو الأمر الذي شهد على صحته التصاعد المستمر في إنجازات المقاومة، خاصة المقاومة الاسلامية في لبنان والمقاومة الفلسطينية في فلسطين المحتلة. هذا التصاعد الذي عبر عن نفسه بجلاء من خلال الانتصار الأسطوري الذي تحقق في لبنان، ضد الجيش الإسرائيلي، وذلك خلال الحرب التي شنها على لبنان عام 2006. وكذلك الامر عندما عجز الجيش الإسرائيلي من ضرب المقاومة الفلسطينية في غزة، عبر أربعة حروب شنت على قطاع غزة والذي كان آخرها عدوان شهر 11/2018 الذي انتهى بهزيمة مدوية للجيش الإسرائيلي…!
هذا الجيش الذي خبر مفاعيل المساعدات العسكرية، المباشرة وغير المباشرة المقدمة للمقاومة الفلسطينية من إيران، سواء عبر استخدام صواريخ الكورنيت المضادة للدروع أو باستخدام الصواريخ الدقيقة في قصف عسقلان وإصابة أهداف فيها بدقة متناهية.
ثالثاً: بناء وتطوير قاعدة علمية تكنولوجية صناعية عملاقة في إيران، وذلك من خلال تطوير القدرات الذاتية للشعب الإيراني وإطلاق العنان لإبداعه، عبر تنمية ورعاية الطاقات العلمية الإيرانية، وتعميق العلم والمعرفة في وجدان الشعب الإيراني، المحب للقراءة والمعرفة والعلم تاريخياً. وهو الأمر الذي تؤكده حقيقة ان مجموع ما ينشر في إيران من صحف محلية يومية قد وصل الى الف ومئة صحيفة يومية وأسبوعية وفصلية، الى جانب ثلاثة وسبعين ألف كتاب جديد تمّ نشرها سنة 2018 السعودية نشرت 2800 كتاب فقط ، وافتتاح أكبر حديقة للكتب في العالم، في شهر تموز 2017، بمساحة اجمالية تبلغ مئة وعشرة آلاف متر مربع، وهي بذلك تكون اكبر من مكتبة بارنز ونوبل في نيويورك.
رابعاً: وفِي إطار تطوير القاعدة العلمية في إيران فقد نجحت قيادة الجمهورية الاسلامية في إيران في تحويل البلاد مركزاً هاماً للعلم والمعرفة. اذ بلغ عدد الطلاب المسجلين في الجامعات الإيرانية خمسة ملايين ونصف المليون طالب سنة 2017، بالاضافة الى خمسين ألفاً آخرين يتلقون علومهم في الجامعات الاوروبية، واثني عشر ألفاً الى جانبهم في الجامعات الأميركية.
علماً أن عدد الطلاب في الجامعات الإيرانية قبل انتصار الثورة الاسلامية لم يتجاوز المئة الف طالب. وهو الأمر الذي جعل إيران قادرة على تأهيل الكوادر والطاقات العلمية المحلية الضرورية لتسيير وتطوير قاعدتها الصناعية الضرورية وتأمين النهضة المستدامة للاقتصاد الإيراني المقاوم. وما الدليل على ذلك الا تسجيل ستة وثلاثين ألف براءة اختراع جديد، لطاقات إيرانية شابة، خلال عام 2017 فقط، ما يجعل الجمهورية الاسلامية من الدول العشر الأولى في الاختراعات العلمية المختلفة.
سادساً: اذن فحملات العداء المتواصلة، والعقوبات المختلفة، ضد الجمهورية الاسلامية في إيران، من قبل القوى الاستعمارية والصهيونية، وعلى رأسهما الولايات المتحدة ودولة كيان الاحتلال الصهيوني، ليست مرتبطة لا بالأسلحة النووية المزعومة ولا ببرنامج الصواريخ الحربية الإيرانية أي ما تُسمى الصواريخ البالستية وهي بالمناسبة تسمية خاطئة، حيث إن كلمة بالستي، أو – Ballestic بالإنجليزية – هي كلمة يونانية الأصل وتعني: علم دراسة حركة او حركيات المقذوفات – وانما باتساع العلم والمعرفة لدى الشعب الإيراني، المقترنة بإرادة سياسية حديدية وقرار واضح وصريح، من قبل قيادة الثورة الاسلامية وقائدها، والذي ينصّ على ضرورة تطوير البلاد وتحصينها ورفع مكانتها بين الدول، عبر الاعتماد على الذات والإمكانيات المحلية والاقتصاد المقاوم غير الخاضع لقوى الهيمنة والاستعمار.
وهذا يعني بالطبع: العمل على إنجاز الاستقلال الوطني الكامل والانفكاك من نير التبعية للقوى الاستعمارية الأجنبية، وبالتالي وضع حد لنهب خيرات البلاد البترولية والمعدنية خامات معدنية ، من قبل شركات الدول الاستعمارية.
وبما أن المواجهة الشاملة، بين الولايات المتحدة والجمهورية الاسلامية، لا تقتصر على الميدان العسكري فقط، فقد اقامت الجمهورية الاسلامية الإيرانية منطقة منع دخول اقتصادي، او Anti Access، في وجه الدول الاستعمارية، مانعة إياها من مواصلة نهب خيرات الشعب الإيراني كما كان عليه الحال في عهد نظام شاه إيران السابق.
من هنا فإن القراءة الدقيقة، للأهداف الاميركية تجاه الجمهورية الاسلامية في إيران، لا تدع مجالاً للشك بان إسقاط النظام الإيراني بحد ذاته ليس هو الهدف الأميركي. بل ان الهدف يتمثل في إعادة التبعية حتى لو بقي من يحكم البلاد مرتدياً الجلباب والعمة. ولنا في الدول المجاورة لإيران والتابعة للولايات المتحدة اوضح مثال على ذلك.
سابعاً: وعلى الرغم من النجاحات الكبرى التي حققتها الثورة الاسلامية في إيران، وعلى مختلف الصعد، فان الاخطار المحدقة بهذه التجربة الناجحة لا زالت كبيرة جداً وتستدعي اتباع سياسة خارجية غاية في الحزم الى جانب سياسة داخلية ديناميكية تكون بوصلتها تعزيز كرامة المواطن الإيراني، من خلال تأمين احتياجاته اليومية ورفع قدرته على مواجهة متطلبات الحياة، المتزايدة الصعوبة بسبب مواصلة اجراءات الحصار الاميركي الخانق.
بمعنى ان العمل على قطع الطريق الداخلي على العدو الخارجي يجب ان تكون له الأولوية المطلقة وذلك لتعزيز القدرة على المواجهة وتأمين فرص النجاح والتطور للجمهورية الإسلامية وشعبها المقتدر. وهو الامر الذي لا يساورنا اي شك في انه سيتحقق قطعاً بفضل صمود شعبه العزيز وحكمة قيادته العالية الحنكة.
بعدنا طيبين، قولوا الله.