هل العراق على مشارف الاستقلال الفعلي؟
د. وفيق إبراهيم
هناك اضطراب سياسي حادّ في العراق يسبق عادة مرحلة «عمل» البندقية، منعكساً على شكل صراع حاد بين ثلاثة أنواع من القوى الداخلية، تأثرت بتصريح للرئيس الأميركي دونالد ترامب، قال فيه إنّ قوات بلاده باقية في العراق لمراقبة إيران والمنطقة.
يُعبّر هذا الموقف عن ميل أميركي الى تصعيد الصراع الأميركي ـ الإيراني في بلاد ما بين النهرين، لكن هناك من يرى فيه، تمركزاً استعمارياً يضبط الأوضاع في سورية والعراق بقواعد ذات مقدرات تكنولوجية وحربية استثنائية، ولهما مهمتان: منع التنسيق بين العراق وسورية، وحراسة الخليج من السعودية حتى حدود اليمن من أي اختراقات من جهة حدود العراق في محافظة الأنبار، هذا بالإضافة الى الدور الأميركي التقليدي الذي يعمل كما يقول، على منع «التفرّد الإيراني في العراق السياسي».
العراق إذاً، هو التمركز العسكري الاساسي للأميركيين في الشرق يلعبون من خلاله دور «العين الثاقبة» التي ترصد حتى أدنى التحرّكات من أعالي اليمن الى لبنان، وتدمّرها.. ما يعني أنّ الإمبراطورية الأميركية ترى في الشرق «ميداناً» ترابط قواتها «التأديبية» في وسطه، ولا تأبه لقوانين وأنظمة إلا بمدى علاقتها بمصالح «الكاوبوي الأميركي».
ماذا عن الداخل العراقي؟
أليس هو المعنيّ بمجابهة «الوظائف» التي منحها الأميركيون لأنفسهم في بلادهم؟
لم يعد الانقسام بين القوى السياسية في «أرض السواد» يحمل الطابع الطائفي والعرقي في الصراعات السياسية: فمواقف رئيس الحكومة الحالي عبد المهدي أكثر التباساً وغموضاً من مواقف رئيس الجمهورية «الكردي» برهم صالح الذي يطالب بإلغاء اتفاقية معقودة في 2008 تجيز للأميركيين ضرب الإرهاب.
هناك داخل القوى الكردية، من يؤيد الدور الأميركي مقابل فئات ترفضه، وكذلك بالنسبة للتركمان الذين يتعلقون بالأميركيين لخشيتهم من النفوذ التركي في مناطقهم.
ولم يخجل رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي في المجاهرة بأنّ الأميركيين في العراق محاربون ضدّ الإرهاب «ونحن بحاجة إليهم».
توجد قوى أخرى في الوسط والجنوب «تنوّه» بالدور الأميركي في محاربة الإرهاب، وتعتبر أنّ عملية انتحارية حدثت في منطقة القائم القريبة من الحدود مع سورية دليل على وجود إرهابي كبير في العراق!
في المقابل يوجد طرفان عراقيان وازنان يرفضان الوجود الاستثماري الأميركي في بلادهم ويعملان على إنهائه، إنما بوسيلتين مختلفتين.
حركة «سائرون» الصدرية الاتجاه ومعها ائتلاف دولة القانون والبناء و»مشروع عربي» لخميس خنجر إلى جانب عشرات التنظيمات الأخرى تعمل على إسقاط اتفاقية الـ 2008 في مجلس النواب، وهذا يعني وجوب رحيل الأميركيين من العراق «سلماً».
أما القوة الثانية فهي الحشد الشعبي ومتفرّعاته في عصائب أهل الحق الخزعلية والحساء والفتح العامرية والنصر..
هؤلاء يجزمون بأنّ إمكانية ترحيل الأميركيين عن العراق شبه مستحيلة بالطرق القانونية، ويجوز هنا برأيهم الجمع بين رفض قانوني نيابي يُلغي اتفاقية 2008 إلى جانب عمل شعبي مقاوم يجعل الأميركيين يحسبون ألف حساب قبل إطلاق تلك التصريحات الترامبية وتساويهم بآل سعود الذين يتلقون الصفعة الأميركية تلو الأخرى ويصمتون ويدفعون مئات المليارات.
العراق إذاً إلى أين؟
يجب الإقرار بأنّ الإجماع الداخلي على مقاومة الأميركيين نسبي، ما يستدعي البحث عن الأسباب، فتظهر فجأة على أنها اختلال في الثقة بين المكونات العرقية والطائفية، فانطلاقاً منها، يلعب الأميركي والسعودي والتركي والقطري بشباك الفتنة الداخلية معرقلين مشروع إجماع وطني على مسألتين: تحرير العراق من مستعمريه الأميركيين، وإعادة وبنائه على أسس وطنية سليمة.
لكن دون هذين الهدفين تنبثق ضرورة ابتداع مشروع سياسي موحّد يضع العراقيين من مختلف المذاهب والأعراق ضمن مساواة في السياسة والاقتصاد والاجتماع، فتزول التحفظات ورعب المكوّنات من بعضها بعضاً.
ويُصاب الأميركيون عندها بذعر حقيقي ولا يطلقون مثل هذه التصريحات الترامبية العنترية.
للإشارة فإنّ لدى «التحالف الدولي» عشر قواعد عسكرية في العراق بينها أكبر قاعدتين جويتين في المنطقة، بالإضافة إلى نحو عشرين «ألف جندي غربي» بينهم سبعة آلاف أميركي كما يؤكد البنتاغون، وإحدى هذه القواعد الجوية هي الأحدث والأفعل في منطقة الشرق الأوسط، لذلك فإن الصراع في العراق ليس مع الإيرانيين الذين لا يمتلكون جندياً واحداً في العراق ولم يبنوا قواعد فيه، وهذا يدفع إلى توجيه الصراع الداخلي مع الأميركيين حصراً، وباللغتين القانونية والشعبية المقاومة..
فإذا كان الجيش الأميركي غزا العراق في 2003 بمئتي ألف جندي، ولم يتمكن من ضبطه، فكيف بوسعه الاستمرار بعشرين ألفاً إذا اتفقت القوى العراقية على مقاومته، لمصلحة بلادها فقط، وفي إطار تحالف مع سورية وإيران ينعش المنطقة ويعزّز دورها الاقتصادي والعالمي جاعلاً الهيمنة الأميركية منحصرة في إطار ضيق؟