الحرب الباردة من سورية إلى العالم!

د. وفيق ابراهيم

التغيّرُ في امتلاك عناصر القوة بين القوى العالمية يتجلى سريعاً في انبثاق صراعات عنيفة بينها للسيطرة على مناطق ضعيفة تختزن موارد طاقة هامة او مواقع استراتيجية أو حاجة دائمة للاستهلاك.

الشرق الأوسط يجسّد حصرياً اجتماع هذه العناصر في دوله، فيما يعكس الصراع على البلقان وأوروبا إرادة أميركية بمحاصرة روسيا ومنعها من التحوّل الى اتحاد سوفياتي جديد، إلا أنّ دولاً مثل اندونيسيا وباكستان تجسد بالنسبة للدول المتقدّمة نماذج قوية لاستهلاك السلع الرخيصة إنما في إطار سكاني واسع جداً.

يمكن الى جانب الشرق الأوسط اضافة فنزويلا في أميركا اللاتينية التي تملك الاحتياطي النفطي الأوّل في العالم مع إطلالة كبيرة على بحر الكاريبي وسكان يزيدون عن الثلاثين مليوناً الى جانب نظام سياسي أرهقه الأميركيون لرفضه الانصياع لرغباتهم الاقتصادية وسياساتهم الدولية، فلم يتمكّن من تطوير البلاد، فنزويلا هذه ذات السياسة المعادية للاستعمار والوطنية تمتلك نظاماً اقتصادياً محدوداً وتمنعها الولايات المتحدة الأميركية من بيع أكثر من 2 مليون برميل نفط يومياً مقابل ستة ملايين برميل للكويت التي لا يزيد عدد سكانها عن المليون نسمة، وأكثر من 11 مليون برميل للسعودية ذات العشرين مليون نسمة.

ضمن هذا الإطار، تصدّت الدولة السورية للمخطط الأميركي الذي أراد تفتيتها الى كانتونات للإمساك بكامل الشرق الأوسط مستفيداً من تراجع الدور الروسي في ذلك الوقت قبل 2010 وجنوح الصينيّين الى الاختباء خلف تمددهم الاقتصادي.

لذلك فأهمية سورية أنها بدأت بالتصدي لهذا المشروع المعولَم بقواها الذاتية فيما كانت روسيا تقاتل من أجل منع خنقها بالسقوط الأوكراني في السلة الأميركية.

طرفان اثنان وجدا في الميدان السوري الفرصة النموذجية لمجابهة العداء الأميركي لهما مع ضرورة الدفاع عن سورية لمنع سقوط الشرق الأوسط بأبعاده: القضية الفلسطينية وإيران وموارد الطاقة.

الدولة الاولى هي إيران التي أسهمت في تدمير الإرهاب بالتعاون مع الدولة السورية وروسيا وحزب الله، وتمكنت أيضاً من رفع مستوى مناعتها في مقاومة الحصار الأميركي الخليجي ـ «الإسرائيلي» المضروب عليها. إيران اليوم وعلى الرغم من هذه الحصارات والمقاطعات تتحوّل دولة إقليمية مرهوبة الجانب لديها تحالفات عريضة ما يجعلها عرضة لمخططات أميركية خليجية «إسرائيلية» تستهدفها بشكل دائم، لذلك فإنّ هذه الجمهورية الإسلامية تحتلّ اليوم رأس قائمة الدول ذات النفوذ الإقليمي الذي يهدّد بشكل جدّي السيطرة الأميركية على العالم الإسلامي.

لجهة الدولة الثانية فهي روسيا التي كانت تعاني من صراعها المنهك مع الأميركيين قرب حدودها في أوكرانيا والقرم وبحر أزوف، فاغتنمت فرصة صمود سورية بدولتها وشعبها وجيشها وانخرطت في قتال الإرهاب المدعوم علناً من الأميركيين والخليجيين و»الإسرائيليين» في قلب دمشق.

هنا لا بدّ من التأكيد انّ القياس الروسي لا يحتمل أنصاف الحلول، فإما ان يبقى الكرملين في غفوة تاريخية سببها انهيار الاتحاد السوفياتي 1989 واما ان تعود روسيا جزءاً من القرار الدولي فتكسر الأحادية الأميركية وتناصفها، وربما تفتح الباب للصين والهند وأوروبا في تقاسمات جديدة لمعادلة القرار الدولي، ما يؤدّي الى اعتداله بسبب طبيعة المنافسات بين قوى كثيرة.

انّ نجاح الروس بتدمير الإرهاب الى جانب الجيش السوري وحزب الله وإيران، ادّى الى تراجع المشروع الأميركي في سورية تحديداً بالتوازي مع صعود دور سوري أصبح قُبلة أنظار الدول المستضعفة والمهدّدة من هذا النفوذ الأميركي ما منح روسيا آفاقاً جديدة تتموضع فيها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً لوقف العربدة الأميركية.

هذا الانتصار في سورية هو الذي أسهم إذاً في تأجيج حرب باردة لكن بداياتها تشبه الصراعات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وذلك بمحاولات الفريق الأميركي الغربي السعودي «الإسرائيلي» للسيطرة على موارد الطاقة في مواجهة مكشوفة مع فريق روسي إيراني سوري صيني يحاول الدفاع عن إمكاناته فيها، وحماية دول حليفة لديها موارد هائلة منها وتريد واشنطن الإمساك بها.

في قراءة سريعة يتضح أنّ روسيا وإيران تسيطران على المركزين الاول والثاني في إنتاج الغاز واحتياطاته مقابل الموقع الثالث لقطر إلى جانب إمكانات مصرية وسورية كبيرة في هذا الصدد.

وهذا يكشف انّ محور الغاز الروسي الإيراني هو الأقوى على مستوى إنتاج الغاز والنفط لقرن كامل لأنه متحالف مع العراق ذي الإمكانات الضخمة وكذلك مع سورية الواعدة في هذا المجال.

هذا الانتصار في سورية أتاح لمدى إقليمي ودولي واسع الوثوق في الروس على رأسها تركيا الأطلسية التي أصبحت تُنسّقُ سياسياً مع موسكو وتشتري منها صواريخ «أس 400»، وكذلك مصر والسعودية والعراق، حتى انّ اليمنيين من أنصار الله المتضرّرين من تأييد موسكو للدور السعودي في بلادهم يواصلون إرسال وفود الى موسكو لفتح علاقات واسعة معها.

في المقابل يسعى الأميركيون لتدمير الدور الروسي الصاعد باختلاق حروب وأحلاف وتحشيد على شاكلة الحصار والمقاطعات ومؤتمر وارسو العربي ـ «الإسرائيلي»، والتخطيط للإمساك بفنزويلا التي تمتلك 18 في المئة من احتياطي النفط العالمي وموارد تعدينية هائلة من ضمنها كميات كبيرة من الذهب، لذلك اخترعت واشنطن معارضات فنزويلية وتباشر دعمها عسكرياً لإسقاط نظام الرئيس مادورو مقابل إصرار روسي على حماية الدولة الفنزويلية الشرعية.

أليس الميدان السوري هو الذي منح الروس فرصة حرب باردة بنظام «القيادة من الخلف» لاستعادة دورهم الدولي وإسقاط «أحادية الكاوبوي الأرعن».

هي سورية إذاً التي تشجع العراق على التمرّد على وصاية الأميركيين وتتحالف مع حزب الله لتحرير لبنان واليمن، لأنّ النصر على الأميركيين في قلب الشرق إنما يشجع الدول الخائفة على تأمين مظلة دولية وإقليمية جديدة يقيها عدواناً أميركياً متأهّباً، وهكذا تشكل سورية الساحة التي أطلقت نظام التمرّد على الأميركيين، هذا التمرّد الذي يسهم في تشكيل أُطر حرب باردة روسية أميركية ما كانت ممكنة لولا العودة الروسية الى الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية ومناطق أخرى في أفريقيا وآسيا.

اترك تعليقاً

Back to top button