لمعان الدولار أعمى بصيرة الأميركيين
اياد موصللي
مواقف رئيس الولايات المتحدة الحالي دونالد ترامب واندفاعه في دعم العدوان «الإسرائيلي» من تأييده لاستيلاء السلطة الصهيونية على القدس والتمدّد بإنشاء المستوطنات على ما تبقى من أراض بيد الفلسطينيين وتبني موقف التوطين وعدم السماح بعودة المهجرين من أبناء فلسطين الى ديارهم، ووقف المساعدات المالية وقطع المخصصات التي أقرت لهم لتغطية نفقات وجودهم خارج وطنهم.. هذه المواقف التي تميّز بها ليست جديدة ولا حديثة ولا فريدة في عناصرها..
الخطر الأجنبي على بلادنا منذ الحرب العالمية الأولى الى اليوم كان متمتعاً بدعم وتأييد أميركا.. لم نشعر بأيّ دعم حقيقي لحريات الأمم من قبل أميركا، في جميع مراحل التاريخ كانت أميركا المهد لهذه الاعتداءات والتعديات.
مرة واحدة ارتفع صوت أميركي يحذر من الخطر اليهودي هو صوت بنيامين فرانكلين.. والذي قال: «ها أنا أحذركم أيها السادة إنْ لم تطردوا اليهود من هذه البلاد الى الأبد فإنّ أولادكم وأحفادكم سيلعنونكم في قبوركم…»
تاريخ أميركا السيّئ بالنسبة إلينا وتدمير بلادنا بحريتها ووحدتها سياسة غير أخلاقية في نفوس قادة أميركا..
هذه القيادات ومواقفها المعادية لنا ليست جديدة ولم تكتشف حديثاً. أميركا عدو أساسي لأمتنا وقد حدّد سعاده موقعها وأبرز سقوطها من عالم الإنسانية منذ ما يقارب المئة عام وتحديداً منذ العام 1924 عندما قال:
الولايات المتحدة هي الدولة الغربية الوحيدة التي كان يُنتظر منها ان تكون مثالاً صالحاً للتمشي على سياسة جديدة عادلة في ما يختصّ بالاستعمار واقتطاع الشعوب اللذين أُنشئت لهما بعد الحرب أساليب جديدة وبدع جديدة، فبعد ان ظهر للشعوب المقتطعة خداع الدول الاوروبية لها، حوّلت وجهها شطر الولايات المتحدة، التي بدا من مجاهرتها بحقوق الشعوب الضعيفة وتصريحها بوجوب إلغاء المعاهدات السرية والسير على طريقة الباب المفتوح وغير ذلك، انها دولة نزيهة لا ترغب إلا في العدل العام طبقاً للحقوق الأولية للأفراد والشعوب، ولكنها، بعد مصادقتها على وصاية فرنسا على سورية، مع ما تعلمه عن مآتي الظلم والاستبداد القبيحة التي تجريها تلك الدولة الأوروبية في سورية، سقطت من عيون السوريين خصوصاً والشرقيين عموماً قشور جديدة وتنبّهوا الى شؤون أخرى غير التي كانوا يعرفونها سوف تغيّر اعتقادهم تماماً، إذا لم تكن غيّرته بعد، بشأن الثقة الأدبية بالولايات المتحدة وسلامة نيتها، كما تغيّر اعتقادهم بشأن الثقة الأدبية بسائر الدول الغربية.
الذنب ذنب أميركا…!
الولايات المتحدة هي الدولة التي كان يرجو العالم ان تكون صلة التفاهم السياسي والأدبي بين الشرق والغرب فخيّبت رجاءه بصورة محزنة جداً، والشرق الذي كان يعتبر الولايات المتحدة صديقة له يرى الآن انّ هذه الصديقة لا تفرق في شيء عن أخواتها الغربيات الطامعات في التلذذ بالاستعمار والاستعباد، فإذا نفر الشرقيون من الولايات المتحدة بعدما بدا لهم منها، فالذنب في ذلك ليس ذنبهم بل هو ذنب الولايات المتحدة وحدها، فالشرق كان يريد ان يحب الولايات المتحدة وان يحتفظ بصداقتها، ولكنها هي التي صرمت حبال المحبة وأبت ان تكون محبوبة ومحترمة من الشرقيين.
الولايات المتحدة هي اول أمة صفعت ولسن في وجهه وهزئت بمبادئه، ومع ذلك فإنّ صحافتها لم تخجل من نفسها عندما رمت الألمان بكلّ فرية لأنّ السفير الالماني أبى ان ينكّس علم بلاده احتراماً لموت ولسن، الذي سبّب تدخله في شؤون أوروبا تعاسة وطنه، وكان الأجدر بتلك الصحافة ان تخصّ بتقريعها الأميركيين لأنهم هم أول من ضرب بـ ولسن ومبادئه عرض الحائط.
انّ اعتراف الولايات المتحدة رسمياً بوصاية فرنسا على سورية، وهي الدولة التي أرسلت لجنة فاحصة للوقوف على آراء السوريين في تقرير مصيرهم، وعلمت من هذه اللجنة انّ كلّ حماية او وصاية او انتداب وما شاكل يكون ضدّ إرادة السوريين وشعورهم الوطني، لم يكن يخطر في بال أحد، بعد أن اقلقت الولايات المتحدة راحة الأرض والسماء تبجّحاً بنزاهتها ومساعدتها للإنسانية، بيد انه يمكن للسوريين الآن ان يحمدوا الله والظروف لحصولهم على هذا الاختبار المفيد، وسيكون هذا الحادث عبرة لأمم الشرق كلها.
الظاهر انّ لمعان الدولارات قد أعمى بصيرة الأميركيين حتى انهم أصبحوا يوافقون على الاعتداء على حرية الأمم بدم بادر وعجرفة متناهية غير حاسبين انّ مثل هذا العمل الشائن الذي يأتونه، جارحين عواطف أمم كريمة كانت تعتبر الأميركيين وتعتقد فيهم الإخلاص الذي أفلس في الغرب إفلاساً تاماً، هازئين بشعور تلك الأمم، صافعيها في وجهها جزاء محبتها لهم وبين تلك الأمم من قد ضحّت بكثير من شبابها وزهرة رجالها في سبيل الذوْد عن شرفهم وعلمهم أثناء الحرب العالمية الهائلة، التي كان المحور الذي تدور عليه الذوْد عن الحياة لا عن الشرف عملاً معيباً يسبّب سقوط مرتكبه.
لا أدري ما هي الأعذار التي يبرّر بها الأميركيون عملهم الشائن بمصادقتهم على وصاية فرنسا على سورية تجاه أنفسهم، ولكني أدري شيئاً حقيقياً ثابتاً وهو أن لا شيء يبرّر هذا العمل، واعتقد انّ عملاً كهذا لا مبرّر له في الحالات الاضطرارية وغير الاعتيادية فكيف في الحالات التي لا اضطرار فيها، خصوصاً والعمل المشار اليه ليس له صفة المصادقة فقط بل صفة المشاركة بالاعتداء على حرية سورية وحقوقها أيضاً، لأنّ الولايات المتحدة قد اتخذت هذه المصادقة وسيلة لجعل رعاياها مساوين لرعايا الدولة المعتدية في الامتيازات التي يُطلقون عليها أحياناً «حقوق الامتيازات»، وهكذا تكون الولايات المتحدة قد اشتركت فعلاً في الاعتداء على حرية سورية لأنها قد اشتركت في الامتيازات التي هي نتيجة ذلك الاعتداء.
ما هي الامتيازات…؟
والآن لننظر في هذه الامتيازات وما هي فائدتها للولايات المتحدة ورعاياها، حتى تستحق الاهتمام الذي علقته هي عليها ورضاها بأن تضع نفسها في صفّ الدول المعتدية على حرية الأمم وحقوقها، وان تتحمّل عبء مسؤولية الاعتداء أمام العالم المفتح العينين والتاريخ، رغماً مما تعلمه عن وخامة عاقبة مثل هذه المسؤولية التي جرّبت ان تتحمّلها دولة هي أعظم من الولايات المتحدة في كلّ شيء وهي المانيا، فجرتها هذه المسؤولية الى العاقبة التي يعرفها العالم كله، مع انّ المانيا لم تُقدم على تحمّل تلك المسؤولية، التي حملها إياها الأمم كلها بالاعتداء على البلجيك، الا مضطرة بالضرورة الحربية المستعجلة.
مما لا يخفى على الأميركيين فضلاً عن السوريين انّ عدد رعايا الولايات المتحدة في سورية قليل جداً لا يكاد يؤبه له، وانّ هذا العدد على قلته كان قبل مصادقة الولايات المتحدة على انتداب فرنسا لسورية يتمتع بامتيازات كثيرة قائمة على محبة السوريين للأميركيين لاعتقادهم فيهم أنهم أبناء أمة منزّهة عن المطامع الشعبية، بعيدة عن المطامع الاستعمارية، راغبة في العدل بين الأمم والشعوب، لا ترغب في الاعتداءات ولا تميل الى إحداث الانشقاقات ولا تعمل على نصرة الظالمين، فأينما وجد أميركيون في سورية كانوا موضوع احترام الأهالي وإكرامهم اللذين لا ينالهما أجنبي آخر سواء كان متمتعاً بامتيازات استعمارية أو لا، ولا أكون مبالغاً إذا قلت انّ بين الوطنيين أنفسهم من كان يحسدهم على المنزلة التي كانت لهم في قلوب الأهلين، والإكرام الذي كانوا يلاقونه عندهم أينما كانوا وحيثما وجدوا، وانّ الافرنسيين أنفسهم الذين يتمتعون بامتيازات استعمارهم يكادون يذوبون حسداً وقهراً، لأنهم، رغم امتيازاتهم الاستعمارية، لا يلاقون من الارتياح والانشراح ما يلاقيه الأميركيون الذين لا امتيازات لهم، بل هم يجدون صعوبات كثيرة من جانب الوطنيين. فماذا كان ينقص الأميركيين في ذلك الوقت وماذا ربحوا من الامتيازات التي طلبتها لهم حكومتهم من فرنسا مقابل مصادقتها على انتدابها لسورية؟
نعتقد انّ الشيء الوحيد الذي كان ينقص الأميركيين في سورية هو إيجاد أمور تنفّر السوريين منهم وتحملهم على كرههم، فكلّ ما قام في الماضي من الأمور المقصودة وغير المقصودة لتحويل السوريين عن محبّتهم للأميركيين كانت نتيجته الفشل التام، اما الآن فالأميركيون أنفسهم نجحوا وكان نجاحهم باهراً جداً، ولا يسعنا في هذا المقام الا ان نهتف مع رصيفتها مرآة الغرب الشهيرة قائلين «فلتحي الدولارات الأميركية!» ليس شيئاً صعباً على الأميركيين. انهم أرادوا ان يكونوا مكروهين من السوريين واننا نقرّ ونعترف بأنهم نالوا ما يبتغون.
الأميركيون أرادوا ان يكونوا مساوين للفرنسيين في سورية فليكن لهم ما يريدون، فالسوريون لا يخسرون مقابل ذلك شيئاً، ولكن الأميركيين يخسرون شيئاً هاماً. انهم يخسرون مركزهم والثقة التي كانت للوطنيين بهم، وغداً إذا لاقى الأميركيون من الوطنيين السوريين إعراضاً ونفوراً جزاء إقدامهم على امتهان كرامة سورية، فقد لا يمنعهم شيء عن ان يتهموا السوريين بالتوحش والهمجية، وان ينسبوا اليهم كلّ فرية هم براء منها. ومن يمنعهم؟ أضمائرهم وقد ماتت؟ أقلوبهم وقد تحجّرت؟ أعواطفهم وقد اضمحلت؟ أأدمغتهم وقد نضبت؟ أإنسانيتهم وقد امحلت؟ أنوابغهم المصلحون والأرض خلاء منهم الآن؟ لا… لا شيء ولا أحد يمنعهم. وغداً يسجل التاريخ انّ الولايات المتحدة العظمى قد سقطت من عالم الإنسانية الأدبي كما سقطت فرنسا العظمى. ولتكن الولايات المتحدة على ثقة من انّ الدولارات، مهما كثرت وفاضت، فهي لا يمكنها ان تُعمي بصيرة التاريخ.
ليست هذه أول مرة تقدم فيها الولايات المتحدة على مسّ كرامة السوريين وإهانة شعورهم الوطني، بل المرة الأولى كانت عندما صادق مجلسها على وعد بلفور بجعل فلسطين «وطناً قومياً لليهود». وقد احتمل السوريون تلك الصدمة غير المنتظرة بصبر جميل حتى جاءت هذه الصدمة الأخيرة بالموافقة على استعمار فرنسا لسورية، وهو ما كان بعيداً عن تقدير السوريين لنوايا الولايات المتحدة بُعد الأرض عن السماء. ولكن الظاهر انّ للولايات المتحدة من وراء ذلك غرضاً خاصاً غير الامتيازات التي أتينا على ذكرها، وهو ان تُبيّن للعالم أنها دولة مصابة بقحط هائل من رجال السياسة والإصلاح، الى حدّ انه لم يكد يوجد في طول بلادها وعرضها رجل واحد قام يندّد بهذا العمل العدائي ضدّ شعب صغير مسالم لم يتأخر عن تقديم الألوف من رجاله فداء شرف الولايات المتحدة والعلم الذي يظللها. ومن هذه الوجهة ايضاً قد بلغت هي ما تبتغيه.
حتى يغيّر الأميركيون ما بأنفسهم…
انّ موافقة الولايات المتحدة على استعمار فرنسا لسورية ظلم مجاني واعتداء على حرية سورية وحقوقها لا مسوغ لهما على الإطلاق، وعمل كهذا يُعدّ أقبح أنواع الظلم والاعتداء وليس من العجيب ان يسبب سقوط الدولة التي تأتيه. ولكن العجيب الغريب ان تظلّ الولايات المتحدة، بعد العمل المذكور الذي أقبلت عليه، تتبجّح بديمقراطيتها وعدلها ونزاهتها، حاسبة انّ العالم يقتنع بمجرد الكلام الفارغ والادّعاء البعيد عن الحقيقة. ولكن يمكن الولايات المتحدة ان تثق من أنها ترتكب، بحسبانها هذا، خطأً فاضحاً وتبيّن من عيّ مخجل. فالناس يفهمون جيداً انّ مساعدتها المالية للأمم ليست عملاً إنسانياً فيما هي ما زالت تشترك في الاعتداء على حرية تلك الأمم وحقوقها الطبيعية. يجب على الولايات المتحدة ان تفقه أنها بموافقتها على استعمار سورية قد أساءت إلى هذه إساءة لا يمحوها بذل الدولارات، لأنها إساءة تعمّدت الولايات المتحدة إتيانها دون أدنى مسوغ بعد ان صرفت في درسها أشهراً وسنوات، وكان الأجدر أن تضعها جانباً إذ لا حاجة لها بها، فكانت أبقت على تلك المنزلة السامية التي كانت لها ولرعاياها في قلوب السوريين والشرقيين والعالم. ولكن من أين لنا بمن يجعلها تصغي لصوت الحق وليقنعها بوجوب الإسراع الى التكفير عن إساءتها؟
في الساعة التي امضت الولايات المتحدة صكّ المصادقة على استعمار فرنسا لسورية، مع ما تعلمه بما يحلّ بسورية من ويلات ذلك الاستعمار، أمضى التاريخ حكمه وسقطت الولايات المتحدة سقوطاً أدبياً مخجلاً. وستظلّ الولايات المتحدة ساقطة الى يوم يغيّر فيه الأميركيون ما بأنفسهم.
ومهما يكن من الأمر فإنّ حادثة هذه المصادقة لطخة سوداء في تاريخ الولايات المتحدة لا يزيلها منه شيء حتى يزول التاريخ نفسه.