الانسحاب الأميركي وتنامي الدور الروسي ومحور المقاومة… «إسرائيل» في مأزق استراتيجي
حسن حردان
على الرغم من انّ الحملة «الإسرائيلية» في داخل الولايات المتحدة، المستندة إلى تيار قوي يعارض القرار الأميركي بسحب القوات الأميركية من سورية، نجحت في دفع الرئيس دونالد ترامب إلى الإبقاء على 400 جندي أميركي في التنف وشرق الفرات لإعاقة ايّ تواصل بري بين سورية وإيران عبر الحدود العراقية السورية، وطمأنة بعض الأحزاب الكردية التي أصيبت بالصدمة والإحباط من قرار الانسحاب الكامل، لأنه يجعلها بين خيارين، مواجهة هجوم تركي، أو القبول بشروط التسوية التي تعرضها عليهم الدولة الوطنية السورية، ما يعني انتهاء رهاناتهم على إقامة كونفدرالية كردية في شمال شرق سورية مدعومة أميركياً… على الرغم من ذلك، فإنّ دوائر القرار في كيان العدو الصهيوني تنظر بقلق شديد إلى أبعاد القرار الأميركي على صعيد موازين القوى الإقليمية، فضلاً عن الدولية، وأكثر أمر يثير قلق هذه الدوائر أنّ القرار يعزز اتجاه تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، مقابل ازدياد قوة حلف المقاومة، وتنامي نفوذ روسيا، التي تقف بقوة إلى جانب سورية وتربطها معها علاقات استراتيجية تؤشر إليها الاتفاقيات الموقعة ببن البلدين على المستويات كافة العسكرية والاقتصادية، فيما العلاقات بين موسكو وطهران ارتقت في الفترة الأخيرة إلى المستوى الاستراتيجي… هذا الواقع المستجدّ، الذي يشكل إحدى أهمّ النتائج المتولدة عن هزيمة أهداف المشروع الأميركي الصهيوني في سورية، دفع حكومة رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو إلى زيادة وتيرة اتصالاتها مع موسكو في محاولة يائسة لكسب تأييد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى جانب موقفها الداعي إلى الضغط على الرئيس بشار الأسد لسحب الوحدات العسكرية الإيرانية من سورية، أو الحصول على موافقته بالسماح للطائرات الإسرائيلية بضرب هذه الوحدات داخل الأراضي السورية.. غير أنّ هذه الطلبات الإسرائيلية لم تلق تجاوباً روسياً، وانْ كانت موسكو في المرحلة الأولى قد اعتبرت نفسها غير معنية بالقصف «الإسرائيلي» للأراضي السورية، لكنها اتفقت مع تل أبيب بأن تبلغها مسبقاً بوقت كاف قبل حصول أيّ عملية «إسرائيلية» كي تخلي الطائرات الروسية الأجواء ولا يحصل أيّ حادث يعرّضها للخطر.. الا أنّ الكمين «الإسرائيلي» الغادر الذي نصبته الطائرات الصهيونية فوق سماء اللاذقية لطائرة «إيل 20» الروسية ما أدّى إلى إصابتها وسقوطها واستشهاد نحو 20 ضابط وجندي على متنها، أدّى إلى توتير العلاقات الروسية «الإسرائيلية» على نحو غير مسبوق ودفع موسكو إلى الردّ على الاعتداءات «الإسرائيلية» بتسليم سورية منظومة صواريخ «أس 300» مما شكل تحوّلاً استراتيجياً في قدرات سورية الردعية في مواجهة الاعتداءات «الإسرائيلية»… حيث من المنتظر أن تصبح هذه المنظومة قيد العمل هذا الشهر بعد إنجاز الطواقم السورية التدريبات اللازمة على استخدامها.. وفي أعقاب ذلك امتنع الرئيس بوتين عن تحديد ايّ موعد لنتنياهو على الرغم من الطلبات المتكرّرة للقاء من قبل الأخير.. إلى أن حصل اللقاء أخيراً الأسبوع الماضي.. وإذا كان اللقاء قد ترك عند الكثيرين بعض الشكوك حول ما إذا كان الرئيس بوتين قد تجاوب مع طلبات نتنياهو ام لا.. إلا أنه من الأكيد أنّ اللقاء جاء توقيته في أعقاب عدة تطورات هامة تجعل نتنياهو في وضع الضعيف في التعامل مع بوتين الذي يتعزّز دوره في الشرق الأوسط على إيقاع تراجع الدور الأميركي.. هذه التطورات هي:
ـ التطور الأول: قرار الانسحاب الأميركي من سورية، وإنْ كان مجتزأ لأنه أبقى على 400 جندي أميركي، غير أنه يعكس التوجه الأميركي بالانسحاب وعدم البقاء كما وعد ترامب خلال حملته الانتخابية وبعد وصوله إلى البيت الأبيض.. وهذا دليل قوي على سقوط أوهام المراهنين على بقاء القوات الأميركية في سورية لتحقيق أهدافهم.. فالجنود الأميركيون لا يمكن أن يبقوا وقتاً طويلاً لأنّ قرار القيادة السورية هو اعتبار أيّ قوات أجنبية موجودة على الأرض السورية، من غير إذن الدولة السورية، قوات محتلة واذا لم تنسحب ستكون عرضة للمقاومة…
ـ التطور الثاني: نشر منظومة صواريخ «أس 300» التي تسلمها الجيش السوري وإنجاز الطواقم السورية التدريبات على استخدامها، وهذا يعني الحدّ من قدرة الطائرات «الإسرائيلية» والأميركية، وحتى التركية، على قيامها بأيّ اعتداءات على سورية، إنْ كان لإعاقة قيام الجيش السوري والحلفاء بالحسم ضدّ الإرهابيين في إدلب، أو لاستكمال انتشاره في شرق الفرات، أو إسقاط الطائرات الصهيونية التي تعتدي على سورية، أكانت في سماء فلسطين المحتلة أو في سماء لبنان…
ـ التطور الثالث: اتجاه الغالبية في البرلمان العراقي إلى التصويت على الطلب من الحكومة سحب القوات الأميركية التي جاءت بذريعة مساعدة العراق لمحاربة «داعش»، وإذ بها تقيم قواعد عسكرية وتريد البقاء لاستخدام الأراضي العراقية قاعدة انطلاق لمواجهة إيران وإسناد القوة الأميركية في التنف وشرق الفرات وحماية القوات الكردية في سورية وفي سعيها لإقامة كونفدرالية.. وتحاول واشنطن الضغط على الأحزاب الكردية في شمال العراق للتصويت ضدّ قرار سحب القوات الأميركية من العراق.. لأنه في حال اتخذ القرار وطلبت الحكومة العراقية من واشنطن سحب قواتها فإنّ هذه القوات لا تستطيع البقاء وإلا أصبحت قوات احتلال ستكون عرضة لعمليات المقاومة من قبل فصائل الحشد الشعبي..
هذه التطورات تجيب بشكل واضح على كلّ الأسئلة بشأن طبيعة الموقف الروسي.. انّ روسيا تقف مع الدولة السورية في الدفاع عن سيادتها واستقلالها، وهذا الأمر طالما أكده المسؤولون الروس على مدى سنوات الأزمة، ولهذا فإنّ روسيا لا يمكن لها إلا أن تكون داعمة لأيّ قرار تتخذه القيادة السورية، ولا يمكن بالتالي ان تؤيد أيّ اعتداء «إسرائيلي» على سورية، غير انّ موسكو لا تريد أن تكون طرفاً في الصراع العربي الصهيوني، لأنّ لديها منظورها الخاص لهذا الصراع وكيفية التوصل إلى حلّ له على أساس القرارات االدولية، وهي تراهن بأن تصبح راعية لأيّ مفاوضات في المستقبل لحلّ الصراع، وهذا ما يفسّر واحد من أسباب علاقاتها مع تل أبيب وعدم القطيعة معها، إلى جانب طبعاً وجود جالية روسية كبيرة في فلسطين المحتلة تقدّر بأكثر من مليون يهودي روسي هاجروا على اثر اتفاق أوسلو.. لأنّ روسيا لا تريد ان تكون طرفاً مباشراً في الصراع وتريد لعب دور راع لأيّ مفاوضات في المستقبل، فإنها أقدمت على تسليم سورية القدرات الصاروخية التي تمكنها من الدفاع عن سيادتها واستقلالها، ليس فقط في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، وإنما أيضاً في مواجهة أيّ اعتداء أميركي أو في مواجهة أيّ تدخل تركي لحماية الجماعات الإرهابية في محافظة إدلب.. وهذا بالطبع يسهم بدوره في تعزيز الدور الروسي في المنطقة…
من هذا المنطلق فإنّ ما يقلق دوائر القرار في كيان العدو الصهيوني هذه الأيام هو انّ قرار الانسحاب الأميركي من سورية يندرج في سياق المسار الأميركي المتصوّر للانسحاب من الشرق الأوسط حيث قرّرت واشنطن على ما يبدو تقليص وجودها العسكري بسبب عوامل مختلفة ابرزها، الإرهاق بعد سنوات من الحروب المكلفة في المنطقة، وخوفها من التورّط في حرب جديدة كلفتها كبيرة، والرغبة في العودة إلى الاهتمام في الشؤون الداخلية مع تحويل التركيز نحو الشرق الأقصى.. وبدا واضحاً أنّ هذا التوجه الأميركي انما يعكس اتجاهاً مشتركاً لدى الجمهوريين والديمقراطيين، لا سيما أنه اتخذ في عهد الرئيس باراك أوباما، وهذا ما يزيد من منسوب القلق في أوساط دوائر القرار في الكيان الصهيوني لأنّ الانسحاب الأميركي وتنامي الدور الروسي يترافق مع ازدياد قوة حلف المقاومة واتساع دائرته وإضعاف قدرات الردع الاستراتيجية «الإسرائيلية» التي كانت لعقود مضت تستند إلى الهيمنة الأميركية وحضورها القوي في الشرق الأوسط والحلبة الدولية.. وهذا ما يجعل تل أبيب تبحث عن سبل مواجهة هذا المأزق الاستراتيجي، لكن لا تجد بديلاً للولايات المتحدة الأميركية يمكن أن يدعم مشروعها العدواني التوسعي التصفوي للقضية الفلسطينية، أو قادر على حمايتها من حلف المقاومة الذي بات يحقق الانتصارات المتتالية عليها، فيما هي من هزيمة إلى هزيمة حتى باتت تتخبّط في مأزق عجز قوتها وتآكل قدراتها الردعية.. ولهذا فإنّ معهد واشنطن المؤيد لكيان العدو وصل إلى خلاصة لافتة في دلالاتها، تقول: «يشعر الإسرائيليون بالقلق من احتمال إضعاف عنصر مكمّل هام لردعهم الاستراتيجي ومرساة الاستقرار الإقليمي» مشيراً بذلك إلى التراجع الأميركي في الشرق الأوسط لصالح التوجه نحو الشرق الأقصى والوضع الداخلي في الولايات المتحدة…