المحكمة الدولية وآليات أخرى لحماية الفساد السياسي في لبنان
د. وفيق إبراهيم
يسجل المشهد السياسي اللبناني معدلات غير مسبوقة في الانقسامات السياسية والعصبيات الطائفية المستنفرة مع ضخّ إعلامي لكلّ ما من شأنه توتير الأوضاع بين المكونات الداخلية. تزامن هذا الوضع مع هجوم سياسي أميركي وأوروبي وسعودي، يجتاح لبنان على شكل موفدين ووزراء يتنقلون بين تحالفاتهم لرصّ صفوفهم، والسبب هو بدء حزب الله في حملته الكبيرة على الفساد السياسي وبالتالي الإداري الذي يهدّد مسيرة الدولة اللبنانية. وهذا لا يفهمه الغربي الأوروبي والأميركي إلا على أساس أنّ حزب الله يريد ضرب النفوذ الغربي المتجسّد في تحالفات قسم من أحزاب لبنان يوالون السعودية والنفوذ الأميركي.
لذلك ضغط الموفدون الأميركيون ذوو المستويات العليا ومعهم موفدون سعوديون وأوروبيون لتمتين التحالف بين أحزاب المستقبل والاشتراكي والقوات والأحرار والكتائب وعشرات الشخصيات السياسية على أساس منع حزب الله من المضيّ في الكشف عن الفاسدين والتأسيس لبنى دستورية وسياسية وإدارية تعمل بمعايير نزيهة لمصلحة كلّ اللبنانيين وازدهار البلاد.
أما الملفات الأولى للفاسدين فعرضها حزب الله داعياً القضاء المختصّ إلى البت فيها من دون تحديد هويات المتهمين. لكن رئيس الحكومة السابق والقيادي في حزب المستقبل فؤاد السنيورة استشاط غضباً معتبراً أنه مستهدف لأنه هو الذي كان رئيساً للحكومة ووزيراً للمال في تلك المرحلة ما استتبع استنهاض كلّ من الزوايا الدينية لنصرته والحلف الأميركي – السعودي الذي يرفض أيّ إدانة له في كلّ السبل، لأنها تؤدّي إلى انهيار تحالفاتهم اللبنانية بكاملها، ما يريده الأميركيون من لبنان مثلث الزوايا: منع الصعود السياسي لحزب الله في البنى الرسمية والمجتمع حتى لو اقتضى الأمر تعطيل الحكومة او تجميدها، إجهاض الحملة على الفساد السياسي، ومنع النازحين السوريين من العودة الى بلادهم.
لعلّ هذا ما دفع رئيس الحكومة سعد الحريري الى الامتناع عن ضمّ وزير النازحين صالح الغريب الى الوفد الوزاري الذي يترأسه لحضور مؤتمر بروكسل. هذا المؤتمر الذي يبحث مسألة دعم النازحين السوريين في مواقع نزوحهم.
والحريري في هذا الموقف يؤسّس لصدام مع الوزير المعني وفريقه السياسي المتجسّد في كونه عضواً في الوزراء المحسوبين على الرئيس ميشال عون، وله علاقاته السياسية العميقة بالنائب طلال أرسلان وتحالفاته مع حزب الله وحركة أمل والأحزاب والقوى الوطنية.
لذلك يشكل موقف الحريري بداية نزاعات حكومية لا تُحمد عقباها. خصوصاً أنه حاول الالتفاف على مؤتمر بروكسل بتقديم أطروحة ضعيفة ترى أنّ الوفد اللبناني ذاهب لتأمين مساعدات للنازحين في المناطق التي تؤويهم، وذلك لتحضيرهم للعودة الى بلدهم في مراحل لاحقة. وهذا موقف ينسجم مع السياسة الأميركية التي تعمل على إعاقة عودة النازحين بأيّ طريقة في الوقت الحاضر.
هناك جزء جديد إضافي من سيناريو الحملة على حزب الله. ويتعلق ببدء التهديد بسلاح يخبّئه الأميركيون للحاجة القصوى ويتعلق بالمحكمة الدولية المخصصة للكشف عن الذين اغتالوا رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري.
وهذا الأمر يشكل إدانة للمتهمين بالفساد، لأنه لو كان لديهم إثبات على براءتهم لأرسلوا فريقاً من المحامين الى القضاء القانوني مثبتين خطأ الاتهامات المنسوبة إليهم. لكن الأميركيين خافوا من انكشاف أمر حلفائهم المحليين المتورّطين كما يبدو في الفساد الذي أصاب الدولة اللبنانية من عام 1992 وحتى 2017 ملتهماً معظم المال العام في تلك المرحلة. بما يؤدّي الى خسارتهم السياسية نهائياً في الميدان اللبناني. فاستحضروا فوراً سلاحهم الكامن الذي يحكم اسم المحكمة الدولية، وللفت النظر فقط فإنّ هذه المحكمة تفرض على لبنان حوالي تسعين مليون دولار سنوياً، بمعنى أنّ كلفتها حتى الآن قاربت المليار دولار من المال العام اللبناني ولم تحقق أيّ إنجاز فعلي لجهة الكشف الدقيق عن الجهة التي اغتالت الحريري. فترتكز على شهود تبيّن أنهم مفبركون وروايات تشبه ثرثرات العجائز واتصالات يتبيّن آنفاً أنّ أجهزة المخابرات تستطيع اختراقها في أيّ وقت.
وهذا يثبت أنّ المحكمة الدولية تؤدّي دور الهراوة المسلطة على رأس لبنان. فحين يريد الأميركيون تفجير الأوضاع الداخلية فلن يتأخروا لحظة عن توجيه المحكمة لتوجيه إدانة لحزب الله أو الدولة السورية أو الطرفين معاً.
يبدو أنّ حزب الله وتحالفاته وافقوا على فكرة المحكمة الدولية لتأكدهم من عدم تورّط أيّ فريق منهم في هذه الجريمة النكراء.. وكان بوسعهم رفض استمرار هذه المحكمة في سنتها الثانية او الثالثة، لكنهم تركوها لمنع الأميركيين من استثمار أيّ موقف رافض يمنح الأميركيين والسعوديين الفرصة لتأسيس نزاعات مذهبية وطائفية.
للإشارة فقط، فإنّ التهديد بالمحكمة الدولية لوقف حملة حزب الله في وجه الفساد لن تنجح.. فالحزب يعرف انّ المحكمة الدولية هي جزء من الفساد الأميركي الدولي الحامي للفساد السياسي الداخلي. وهذا يعني أنّ القضاء على الأجنحة الداخلية للفساد مع محكمته الدولية، ينتج لبنان نزيهاً قابلاً للازدهار ويضع المال العام في خدمة اللبنانيين… كلّ اللبنانيين.