دروس في ذكرى الحرب اللبنانية
ناصر قنديل
– قبل أربعة وأربعين عاماً انطلقت الشرارة التي أشعلت حرباً امتدت لخمسة عشر عاماً في لبنان، قبل أن تنتهي باتفاق الطائف الذي أعاد ترسيم حدود التوازنات المحلية والإقليمية التي ستحكم لبنان الخارج من الحرب، والأكيد أن هذا الحدث اللبناني والعربي والإقليمي الكبير وما استدرجه من سياسات وتطوّرات كان الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 أبرزها، وكان اتفاق السابع عشر من أيار لإنهاء علاقة لبنان بالصراع مع «إسرائيل»، برعاية أميركية مباشرة وحضور عسكري أميركي مباشر أحد أهم ملامحها الدولية والإقليمية، تحتاج إلى الكثير من الدراسة والبحث لفهم أسبابها العميقة، الأعمق والأبعد من فهم أطراف الحرب لسياق انخراطهم أو تورطهم فيها.
– الدرس الأهم الذي تقوله الحرب اللبنانية خصوصاً للجيل الذي انخرط في غمارها تحت شعارات اعتقد أن الحرب سبيله لتحقيقها، أن الحماسة والصدق لا يعوّضان عدم دقة الحسابات، وأن النيات الطيبة كثيراً ما تخدم في ساحات حساسة وفي لحظات حرجة مشاريع شريرة، فقد ثبت سوء الخيار وعقم الرهان، بعد سنوات من الحرب تكفلت بإحراق الأخضر واليابس وإيقاظ العصبيات والغرائز وتدمير العمران في الحجر والبشر، واستخلاف أجيال ولدت وترعرعت في ثقافة التعصب والقتل والجهل والعصبية على مصير وطن، تقاتل حول هويته ومستقبله قادة الحركة الطالبية والمثقفون والحالمون بالتغيير، كل على هواه ووفق رؤيته. وصار وقف الحرب أغلى من أي هدف يبرر استمرارها، وصار الثابت الوحيد أن الخط الأحمر الذي يجب أن يحكم كل مشروع سياسي حالم يميناً أو يساراً، هو عدم المجازفة بالسلم الأهلي، الذي صار كما المقاومة التي أدارت ظهرها للحرب الداخلية ومقتضيات الانخراط فيها، ثمرتان ذهبيتان يكفي الحفاظ عليهما إطاراً لأي مشروع سياسي جدي، يرى تحسين الأداء السياسي والإصلاح السياسي والتقدّم في بناء الدولة ومهماتها، أهدافاً نبيلة يقتضي الخوض فيها والسعي إليها مع الحذر من الوقوع في محظور المساس بإحدى هاتين الثمرتين أو إحداهما.
– تحتاج الحركات الاحتجاجية الناشئة في العالم العربي، سواء تلك التي اكتوت بخماسين الربيع العربي، أو تلك التي تختبر مشاريعها التغييرية الآن، إلى هذا الدرس ومثله درس ثانٍ حول كون الدولة، كهياكل لإدارة الشأن العام، بمعزل عن درجة صواب خياراتها السياسية الداخلية والخارجية، منجزاً حضارياً وإنسانياً يشكّل التفريط به تحت شعار الثورية والتغيير، عملاً أحمق وقفزة في المجهول ومخاطرة بالذهاب إلى الفوضى وشريعة الغاب واستيلاد أشكال من التوحش السياسي والاجتماعي، تستجلب معها كائنات تناسب استمرارها وتناسلها ثقافة وسلوكاً، تتكفل بخلق سياقها وتناسلها، وتحويل الأوطان ساحات تعبث بها كل أشكال التدخلات الخارجية، وتستثمر فيها كل أجهزة المخابرات، وتستنهض كل العصبيات والغرائز، بحيث يمكن القول بمسؤولية إن الدولة السيئة تبقى أفضل ألف مرة من اللادولة، وإن السعي لتغيير سياسات وأداء الدولة يجب أن يلتزم الحذر من الوقوع في فخ تدمير هياكل الدولة، والذهاب نحو تشريع الفوضى. وهذا لا يجوز أن يعني دعوة للتكلّس والذعر من كل دعوة للتغيير، بل الحذر من التسرّع في إجراء الحسابات واستسهال القفز إلى المجهول.
– أسئلة لا بد من الجواب عليها بتأنٍ حول الحرب اللبنانية ومثلها حروب أخرى، تتصل بالنظرة الغربية لكيانات المنطقة، التي رسمت حدودها بأقلام القناصل وخرائط وزراء الخارجية، وأبرز ما فيها ذلك التلازم بين اتفاق سايكس بيكو ووعد بلفور، والحاجة الوظيفية لترسيم الحدود في تمرير نشوء كيان الاحتلال الاستيطاني في فلسطين، والحاجة لامتصاص الفائض السكاني الناتج عن تهجير الفلسطينيين دون امتلاك فائض قوة يتيح التفكير بالحرب، وتركيب معادلات للديمغرافيا السكانية داخل حدود كيانات الجغرافيا السياسية للكيانات، تتيح تفجيرها من الداخل عند فشلها في تحقيق الهدف، كما حدث مع لبنان، أو عند امتلاكها فائض قوة يهدد أمن «إسرائيل»، كما يحدث اليوم مع لبنان، وكما قالت الحرب على سورية أمس، وكما هو الحال منذ عقد ونيّف في العراق.
– هل بلغ اللبنانيون رشداً سياسياً كافياً لسلوكهم طريق بناء دولة عصيّة على اللعب بتوازنات الديمغرافيا، وعصيّة على الحرب بقوة إدراك قواعد الجغرافيا، وعصيّة على الكسر بالتهديد، وعصيّة على العصر بالإغراءات؟