ترامب وسياسة إخراج الحلفاء من «الشرق الأوسط»
د. رائد المصري
بهدوء… فبعد أن أخرج ترامب وأرعب حلفاءه الأوروبيين تدريجياً من معادلات التأثير في منطقة الشرق الأوسط في مصالح النفط والغاز بجعلها حكراً لأميركا وتل أبيب عملاً بنصيحة ذئابه في الإدارة الأميركية، وهم أصبحوا بالمناسبة اليوم أربعة: جون بولتون ومايك بومبيو وأليوت أبرامز وجاريد كوشنر، حاول التركيز على جبهة واحدة من جبهاته التي افتتحها من أجل تحقيق وعوده الانتخابية وتكديس المال المركنتيلي، كي ينجز انتصاراً واحداً يحفظ له ماء الوجه أمام خصومه الداخليين قبل الخارج، كحربه التجارية مع الصين وجبهة كوريا الشمالية ومحاولته تصفير النفط الإيراني لمنع بيعه، وأزمة اليمن والحرب فيها، إضافة إلى جبهة فنزويلا وفلسطين، وما يدور في ليبيا والجزائر والسودان…
لا يبدو أنّ هذا الصلف الترامبي في افتعال الأزمات والتوتر حول العالم يمكن أن يحسّن من شروط الولايات المتحدة مع ما يرافقها من انسحابات بالجملة من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، مما أثار الريْبة والقلق على المستوى الدولي والإقليمي وصارت المواجهة مع أميركا مكشوفة وعلى الملأ والإعلام وعبر شاشات التلفزة، فتوضح الدعم الأميركي للمجاميع الإرهابية في سورية ورغبة ترامب في إبقاء بؤر التوتر والقتل العشوائي والجزر الانفصالية في الجغرافيا السورية لاستمرار معاناة النازحين في الداخل السوري وفي الخارج، بدءاً من مخيم الركبان وقاعدة التنف مروراً بإدلب وصولاً الى محميات «قسد» وانفصاليات العشائر المزمع تركيبها وتشكيلها، حيث جاء الردّ بعد استنفاد كلّ إمكانات الصبر الاستراتيجي والعلاج السياسي بضرورة الحسم العسكري للجيش السوري والروسي في إدلب، لكن هذه المرة من دون الباصات الخضر التي كانت تشكل عنواناً للانتصارات العسكرية والاستراتيجية، وهي تشكل كذلك رسالة استباقية للقوى في شمال شرق الفرات من أكراد انفصاليين أو عشائر عربية مضلّل بهم وكذلك للاحتلال التركي الذي بدأت تضيق عليه مساحة الخيارات، بأنّ الانحكام للدولة العربية السورية هو السبيل والطريق الوحيدة لحماية الجميع عبر معابر أستانة ولجان تشكيل الدستور الجديد والحوار السياسي، ترافق ذلك مع استكمال تطهير الحدود السورية العراقية مما تبقى من فلول الإرهابيين ووصل ما انقطع برياًً بين البلدين طيلة هذه الأزمة، وهذا أبلغ ردّ على ما تبقى من المشروع الأميركي وريشته التكفيرية…
حتى العقوبات الأميركية على إيران وتصفير صادراتها النفطية والغازية التي دخلت حيّز التنفيذ مؤخراً عبر فرض عقوبات على الدول المستثناة من شراء النفط الإيراني، ورغم التهويل الأميركي والتصريحات البهلوانية لترامب وذئابه المنفردة في إدارته، تعبر ناقلات النفط الإيرانية العملاقة في مضيق هرمز بحماية بحرية الحرس الثوري وعلى مرأى الأساطيل الأميركية من دون أن يحرك أحد ساكناً، حيث يظهر جلياً بأنّ هناك التفافاً على هذه العقوبات من قبل دول إقليمية وازنة. وبدأت إيران في اليوم الأول من بدء ساعة تصفير نفطها ببيع مليون وأربعمئة ألف برميل يومياً الى الصين وتركيا والهند وغيرها، مما يعني أنّ هذا الصراخ وصل الى الحدّ الذي لا يؤدّي للتوتر في منطقة مضيق هرمز ولا لإغلاقه وهو موضوع خطير دولياً، وأن لا تفرط طهران بالبيع كثيراً حفاظاً على أمن الخليج وخصوصاً السعودية والإمارات لإبقاء حالة الاستنزاف المالي عبر العدو المفترض أميركياً، وكذلك على أمن «إسرائيل» بدعم فصائل المقاومة، وما ينتظر الكيان من ملفات التسوية وما تبقى من صفقة القرن…
لم يستطع ترامب رغم كلّ الضغوط الداخلية وعلى مستوى الرأي العام الغربي والدولي المندّد للحرب على اليمن والتقارير الأممية بهذا الشأن، أن يقفل هذه الحرب ويضع سقفاً زمنياً لها، فلم يتمّ حسم الحرب في الداخل اليمني ولا هو قادر على إجراء تسوية تحفظ مصالحه ومصالح الكيان الصهيوني في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، فلا زالت مشكلات المضائق البحرية عالقة وتنتظر تفاهمات وتسويات واتفاقات دولية هو بنفسه أي ترامب انسحب منها وضرب عرض الحائط شرعيات الدول وشرعية المؤسسات الأممية، فلا ثقة.
وبالحديث عن شرعيات نظم الحكم في الدول التي أراد ترامب العبث بها، كان آخرها محاولاته المفضوحة والمكشوفة والعاجزة عن الإطاحة بانقلاب عسكري على الرئيس الفنزويلي الشرعي نيكولاس مادورو. وهذا فشل كبير وسقطة هستيرية أحدثت جدلاً وانقساماً في جبهات الإدارة الأميركية واصطفافاتها المنقسمة أصلاً على أدائه وسوء سياسات ترامب، وجعلت الشعب والجيش الفنزويلي متنبّهاً أكثر لمحاولات جرّ البلد لحروب واقتتال داخلي للسيطرة على مقدراته وخيراته النفطية، ولهذا كان الالتفاف كبيراً ومحصّناً لشرعية الرئيس مادورو ومن خلفه قيادة الجيش، وهذا كان مسار الحديث الهاتفي عقب محاولة الانقلاب العسكرية الفاشلة في كاراكاس التي قادها ذئاب الإدارة في واشنطن بين بوتين وترامب استمرت ساعة ونصف الساعة لتبريد الأجواء والاتفاق على لقاءات مستقبلية بدأ التمهيد لها كلّ من وزيري خارجية البلدين سيرغي لافروف ومايك بومبيو…
كلّ ذلك من دون أن ننسى إعادة ترتيب العلاقة الترامبية التجارية مع الصين بعد أن استشعر الخسارة في رفع الحواجز الجمركية وفرض الضرائب على السلع الصينية، وكذلك انتقال الملف الكوري الشمالي بكامله الى العهدة الروسية وترتيب الضمانات الدولية بشأنه، بحسب ما طلب. وأكد ترامب على ذلك مع بوتين في الاتصال الهاتفي، ناهيك عن الانقسام الحاصل في الداخل الأوروبي الرافض أصلاً للعقوبات الأميركية على إيران وللانسحاب من الاتفاقية النووية والذي تجسّد في ظهور طرف سياسي آخر خارج الاصطفاف الحزبي الكلاسيكي في بريطانيا بين العمال والمحافظين إثر جدل «بريكست» الدائم واستفتاءاته، وهو ما سيجعل كلّ أوروبا تعيد حساباتها على الخريطة الدولية الجديدة التي وضعت روسيا أولى لبناتها.
المهمّ هو التسليم بضرورة الشراكة وضرورة التفاهم مع القوى الدولية الصاعدة والكفّ عن المكابرة والعنجهية، فأمام هذا الفشل والتصعيد في التوتر في الخطاب الأميركي دليل إضافي على مرحلة الأفول الأميركية والانحدار في مسار سياساتها الخارجية وليس العكس، لأنّ الواقع السياسي الدولي فرض على ترامب ولو متأخراً ضرورة التشارك مع موسكو وبكين لصياغة نظام دولي أقرب الى نوع من التقبّل لإدارة الصراع والنزاع العالمي، وربما هذا يعطي ترامب أرجحية له في استحقاق 2020، وهذا حكماً سينسحب على ملفات المنطقة في فلسطين والقدس والجولان، حيث تشكل صواريخ المقاومة الفلسطينية في غزة على المستوطنات الصهيونية وبدء المواجهة العسكرية البارومتر الأول للردّ ولرفض مندرجات صفقة القرن التي تباهى بها الذئب اليهودي جاريد كوشنر مؤخراً، فما عجزت السياسة الأميركية عن تحقيقه في جارتها القريبة فنزويلا لا يمكن أن تحققه بعد اليوم في السودان والجزائر وليبيا ومصر، لأنّ المواجهة مكشوفة والشعوب قد اكتوت من نار التآمر العربي والاستعماري الغربي عليها… فهل لا زال البعض في لبنان ودنيا العرب لديه ترف الرهان على السياسات الأميركية والبنك الدولي والقدرة في الحفاظ على هذه الطغم المالية التي تخنق المواطنين في لقمة العيش؟
نبدأ في حصد والتماس النتائج من ملفات الموازنة في لبنان وسياسات التقشف التي فرضها البنك الدولي بعصر الفقراء ومعاشاتهم، لننتظر ونقوّم.
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية