ثورات معقَّمة
ناصر قنديل
– لا يمكن إلا الشعور بالفرح لعدم انزلاق الأوضاع في الجزائر والسودان نحو الفوضى أو الخيارات الدموية، ونجاح المعنيين في الشارع والحراك الشعبي والقوات المسلحة معاً في إيجاد مساحة للخلاف والتفاهم تحول دون الخيارات التي عصفت بالبلدان التي عرفت النسخة الأولى من الربيع العربي.
– الأسئلة الكبرى التي يطرحها وضع النسخة الجديدة من الربيع العربي تتصل بغياب كامل لأي إشارة جدية لرؤية جناحي الأحداث في الحراك الشعبي وقواه من جهة والجيش من جهة مقابلة تجاه الخيارات الكبرى للدول التي تتصل بالسياسات كأن الثورة تقول إن لا مشكلة لها مع سياسات النظام السابق وقضيتها تقتصر على الشأن الداخلي. وهذا يعني أنها حركة من داخل النظام رغم الكلام المعاكس عن ثورة لأن الثورة تُعيد صياغة كل شيء وترفع صوتها على كل ما هو نافر في السياسات السابقة تجاه القضايا المتصلة بالهوية. وحتى الآن لم نسمع كلمة عن موقف من السياسات الأميركية في المنطقة وسوق النفط وثروات الجزائر الهائلة وعلاقاتها بالشركات العالمية الكبرى، ولا عن الوضع العربي ومكانة الجزائر فيه، ولا عن فلسطين التي لم تغب يوماً عن هموم الجزائريين واهتماماتهم، وقد شكلت حضوراً منذ أيام استقلال الجزائر، مع أحمد بن بلة والهواري بومدين.
– في السودان تبدو الأمور أشدّ وضوحاً، فالغريب العجيب أن السودان الذي يشارك في حرب اليمن منذ عهد الرئيس عمر البشير، لم يرد طلب عودة قواته إلى الوطن في حركة الشارع والاعتصام المستمر أمام قيادة الجيش منذ شهر ونيّف. وهو مطلب عادي طبيعي إنساني يرد في أي حركة احتجاجية في أي بلد تشترك قواته المسلحة في حرب ليس له فيها يد ولا مصلحة وترتكب فيها المجازر ويساءل قادة العالم على درجة مسؤولياتهم فيها، ويموت فيها الجنود والضباط بلا قضية. ولا يمكن إنكار العلاقة بين هذه المشاركة والمال الخليجي الذي يصل إلى السودان بما يسيء للجيش السوداني والحركة الشعبية فيه بقبول صيغة تبدو أقرب لتحويل الجيش إلى قوات مرتزقة تشارك في الحروب الخارجية لقاء المال بدلاً من القضية، والأشدّ غرابة ومصدراً للعجب أن الإعلان الوحيد الصادر عن المجلس العسكري المتصل بمكانة السودان العربية والدولية جاء لتأكيد بقاء الجيش في حرب اليمن، والأغرب أن الحراك الشعبي الذي علق بالسلبية على الكثير الكثير مما قاله المجلس العسكري التزم الصمت تجاه هذا الإعلان.
– أما فلسطين التي نثق أنها في مكانة خاصة في عقول وقلوب السودانيين والجزائريين فقد شهدت حرباً إسرائيلية دموية خلال الأيام التي كان الآلاف من شباب الحراك الشعبي يملأون شوارع السودان والجزائر، من دون أن نشهد علماً فلسطينياً أو إعلان تضامن أو هتافاً أو خطاباً يتصل بما يجري فيها، والأمر لا علاقة له بالاشتغال بالشأن الداخلي، ولا بمفهوم الانتماء للعروبة أو للإسلام، فما تشهده فنزويلا من مخاطر داخلية أكبر بكثير، ولا صلة تربطها بهوية قومية أو دينية بفلسطين، لكن فلسطين تحضر في كل محطات الحضور الشعبي فيها، ولهذا تفسير واحد هو الضوابط التي لا تلتزمها القيادة الفنزويلية كقيادة حرة، بينما تتقيّد بها القيادات الشعبية والعسكرية في الجزائر والسودان، لالتزامها بسقوف تحول دون حضور فلسطين، وتلزمها بحصر السياسة ضد النظام السابق وفي التنافس في ما بينها والنظر للنظام الجديد، بقضية واحدة هي تقاسم السلطة، ولذلك لا يعنينا ما يجري إلا بمقدار عدم الانزلاق نحو الفوضى وعدم المساس بوحدة البلاد وسلمها الأهلي، ونشدّ على أيدي المعنيين لهذا الالتزام، لكننا نعتذر عن وصف ما يجري بالثورة أو بالتغيير الجذري، طالما أن مسائل الاستقلال الوطني والمواجهة مع مشاريع الهيمنة، والالتزام بفلسطين تشكل شأناً ثانوياً لا يستحق الذكر.