ترامب بين فكّي كماشة الصين وإيران والحرب اللفظية
سماهر الخطيب
تصاعدت وتيرة الحرب الكلامية الأميركية في الآونة الأخيرة ضدّ طهران وبكين، بات خلالها «التويتر» منصّة توتر لفظية، يستخدمها الرئيس الأميركي دونالد ترامب للإفصاح عمّا يدور في ذهنه العقاري. فالعالم بالنسبة لهذا المدير ليس سوى مجموعة من العقارات يسمسر بين هنا وهناك ويساوم ما بين حرب وأخرى، غير متردّد بانتهاز الفرص السانحة لجمع المزيد من الأموال في البنوك الأميركية، وإيجاد المزيد من فرص العمل لمكافحة البطالة في الداخل الأميركي، بالرغم من كون عقلية ترامب قد خضّت النظام الدولي عابثاً فيه بفوضاه التجارية، إلا أنه يبقى كغيره من أسلافه يعمل لسياسة خارجية تخدم السياسة الداخلية الأميركية.
ولخدمة هذه السياسة المصلحيّة، وجد ترامب نفسه بين فكي كماشة، بين الشرق الأوسط والشرق الأقصى، بين الحرب التجارية والحرب الاقتصادية، بين الصين وإيران، أشعل ترامب عبر تغريداته من جهة، وقراراته التي أشرك بها أجهزة إدارته القومية والخارجية والعسكرية وحتى الفضائية، حرباً تجارية ضدّ الصين، منذ إعلانه رفع الرسوم الجمركية ضدّ البضائع الصينية واضعاً في خدمة تلك الحرب كل الأساليب المشروعة وغير المشروعة وحتى أنه توجّه نحو تدخلات حقوقية في الداخل الصيني بحجة حماية الأقلية المسلمة في داخل أراضيها، إلى المناورات العسكرية في بحر الصين الجنوبي، وصولاً إلى تصريحه بالأمس، عن رضاه من «الحرب التجارية» المندلعة بين بلاده وبكين، مراهناًً على أن «الصين لن تصبح أكبر قوى عظمى في العالم» خلال رئاسته.
فيما توقع اقتصاديون من المجموعة المالية «HSBC Holdings Plc»، أن تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030، حيث سيبلغ إجمالي الناتج المحلي في العام المذكور 26 تريليون دولار.
وهذه التوقعات تتطابق مع نظرة صندوق النقد الدولي للاقتصاد الصيني، الذي قال أيضاً إن «الصين قد تصبح أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030».
إلا أنّ ترامب اعتبر أنّ «الاقتصاد الصيني كان سيتجاوز الأميركي لو أصبحت هيلاري كلينتون رئيسة، لو حدث ذلك لكانت الصين اقتصادياً أكبر بكثير من الولايات المتحدة بحلول نهاية فترة ولايتها، والآن لن تكون حتى قريبة».
وشدّد الرئيس الأميركي على أن «الصين لن تحل محل الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عظمى رائدة في العالم»، خلال فترة رئاسته. وفي مسعى من الرئيس الأميركي لمنع حدوث توقعات الاقتصاديين قامت الإدارة الأميركية بزيادة الرسوم الجمركية على البضائع الصينية، ووضعت عملاق الاتصالات الصيني «هواوي» وعشرات الشركات التابعة له في قائمة سوداء تحدّ من الوصول إلى الشركات الأميركية.
حتى أنّ مدير البيت الأبيض نصح الأميركيين بصناعة ما يحتاجونه داخلياً، للاستعاضة عن الصناعات الصينية التي لم تغز الأسواق الأميركية فحسب بل العالمية ككل، لدرجة أنّ حلفاءه الأوروبيين استشاطوا غيظاً من ذاك التصعيد لما طال مصالحهم الاقتصادية من ضرر.
وفي الجهة الثانية للكماشة، تتربّع إيران في الشرق الأوسط، التي أشعلها ترامب منذ إعلان انسحابه من الاتفاق النووي إلى فرض الحزمة الأولى من العقوبات نحو الثانية وصولاً إلى التصعيد الكلامي المنذر بالحرب، مروراً بحلف الناتو العربي، وزيارات مكوكية أميركية للمنطقة لحشد الدعم وتوجيه البوصلة الأميركية «العربية» نحو «العدو» الإيراني، وسعي محافل «العرب» قاطبة نحو الحج الأميركي والسمع والطاعة..
للناظر والقارئ لمجريات الأحداث الدولية والإقليمية، ربما للحظات يصاب بذهول دونما أن يستطيع استيعاب ما يحدث، إنما يبدو جلياً وضوح التوجّه الأميركي المصلحي، والتي أعلنها صراحة ترامب بأنه لا يريد حرباً عسكرية مع طهران إنما يريد، حرباً اقتصادية، كتلك التي يريدها مع بكين، لو اختلفت الأساليب والمصطلحات إنما تصب في الصالح الأميركي، وملء الخزينة الأميركية بالأموال عبر كل الأساليب المتاحة والمبتكرة بالعقل «السمساري».
مع كل تغريدة لترامب ترتفع البورصة العالمية، أو ربما تنخفض، إنما الأكيد هو رفع منسوب الأموال داخل البنوك الأميركية، والتكلفة تدفعها الجيوب الخليجية وأحياناً الأوروبية عبر ذراعها العسكري «الناتو»..
وما تقوم به واشنطن من خطوات مدروسة تواجهها خطوات طهران المحسوبة، حيث قامت طهران بخطوتين يعرفان بعنصر المفاجأة، بلغة الحرب، الأولى، إعلانها عن مهلة ستين يوماً لتخرج بعدها من الاتفاق النووي وتعود للتخصيب المرتفع لليورانيوم عندها، ما يعني اقترابها من لحظة امتلاك الكمية الكافية كماً ونوعاً لصناعة قنبلة نووية، والثانية رفع درجة السخونة عبر قيام حلفائها الذين يملكون خطوط اشتباك مع واشنطن وحلفائها «العرب»، كحال المواجهة بين أنصار الله والسعودية والإمارات، مثلاً، وغيره من الأمثلة الكثير..
يتضح جلياً من تلك الخطوات الإيرانية، أنّ حائكي السجاد يدركون بدقة ما يحيكون فكيف الحال بدقة موازين القوى التي تحكم معادلات المنطقة، حتى أنها لم تجعل لهجة واشنطن وخطواتها التصعيدية، يمرّان دونما استفادة من تلك الفرصة لتوجيه ما يملكه محور المقاومة من قوة مجتمعة، لإحكام القبضة على ربط أي مسعى للتفاوض بتناول الملفات المتشابكة، بحيث بات حل الملف اليمني والسوري والعراقي وكل ملفات المنطقة، مرتبطة بمفاتيح «تملكها» إيران، وتضمن تهدئة الملف النووي بانتظار فرص مقبلة للحلول، إضافة لأي حل يؤمن صادرات نفطها وتدفق الأموال..
فيما ترسم الصين معادلات دبلوماسية لإدارة حربها التجارية مع أميركا تتراوح بين تسويات وضغوط ومواجهات بالمثل، تراوح أميركا بطريقة التراضي أو بطريقة التغاضي أو بربط النزاع، كشروط للتهدئة..
كذلك تحيك إيران معادلات اقتصادية لإدارة حربها الاقتصادية مع أميركا تتراوح بين تصعيد لفظي وتغاضٍ عن دعوات التفاوض والحرب في سياسة لا سلم ولا حرب ومواجهات بالمثل، تراوح أميركا بطريقة الضغط أو بربط النزاع، كشروط للتهدئة..
وما بين فكّي الكماشة «الشرقية»، يراوح ويراوغ الأميركي شارياً الوقت فقط، لكسب أصوات انتخابية وأموال للخزينة الأميركية.. ويبقى التوتر الدولي والفوضى في النظام الدولي سيّد الموقف حتى تتبدّد غيمة الحرب التويترية.. إنما سيسجل التاريخ أنّ تلك الكماشة «الشرقية» قلبت موازين القوى ورسخت نظام دولي جديد..