ماذا بعد موقف رئيس الجمهورية من الكانتونات؟
ناصر قنديل
– ربما يكون الموقف الذي صدر عن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حول رفض السماح بتحويل لبنان إلى كانتونات مغلقة بعضها على البعض الآخر هو أهم المواقف التي تتمتع بالقيمة السياسية، ولا تندرج في سياسة التذرّع بالخطأ لتبرير الخطيئة، أو تقع في باب المجاملات التي تبلغ حدّ النفاق السياسي أحياناً بالجمع بين ادعاء الحرص على مشروع الدولة واتفاق الطائف ونسيان موجبات هذا الحرص عند مواجهة محاولة جديّة للانقضاض على فكرة الدولة، وتطيير اتفاق الطائف.
– ما جرى في الجبل ليس المقصود به الموقف من خطاب الوزير جبران باسيل المليء بانفعالات ومفردات يسهل انتقادها، خصوصاً عند التحدّث بلغة طائفية تستنفر مثيلاتها وتبررها. ولا المقصود به البعد الأمني المتضمّن في معنى جمع جمهرة حزبية مسلحة مكلفة من قيادتها بمهمة قطع طريق المرور أمام موكب رسمي ولو اقتضى الأمر بالقوة، والقوة تتضمّن إطلاق النار، ويبدو أنها تتضمن أيضاً إطلاق النار المسدّد نحو الرؤوس، ورغم ذلك ليس هذا هو ما جرى في الجبل، ما جرى في الجبل هو خروج مكوّن سياسي رئيسي في البلد شريك في لتفاق الطائف، ليعلن شروطه لتطبيق معدل لمفهوم دولة ما بعد الطائف، ولمفهوم معدل للطائف نفسه، بالكلام الصريح الذي كرّره أكثر من قيادي في الحزب التقدمي الاشتراكي عن نظرية «المناطق والأبواب والشبابيك».
– المضمون السياسي لما جرى في الجبل هو أن المصالحة المسيحية الدرزية التي جرت في الجبل لا تعني أبداً أن الجبل يقوم على تساوي الحقوق السياسية للمكوّنين الدرزي والمسيحي عبر القوى الأوسع تمثيلاً بينهما، أي الاشتراكي والتيار الوطني الحر، بل على التسليم بمرجعيّة درزية يمثلها الاشتراكي، وتجاهل أن قضاءي الشوف وعاليه وحدهما يمثلان في لبنان منطقة توازن عددي بين المكونين الرئيسيين الطائفيين للمسيحيين والدروز. فالتراجع العددي الإجمالي للمسيحيين أمام المسلمين لا ينطبق على التوزان العددي الدرزي المسيحي في قضاءي عاليه والشوف، ومضمون المعادلة الاشتراكية الجديدة أن الخصوصية الدرزية كأقلية ممثلة بحزبها الأبرز يجب أن تحظى بنسبة من الحصة المسيحية وربما غير المسيحية في الشوف وعاليه، من دون الذهاب لمنطق الدولة المدنية، بل في قلب الدولة الطائفية نفسها، تعبيراً عن الاعتراف بالخصوصية، ومراعاة للتوازنات. وهذا مغزى الخلاف الذي أشعل حرباً سياسية إعلامية بين الاشتراكي وتيار المستقبل، بسبب قيام مدير عام قوى الأمن الداخلي برعاية وحماية من رئيس الحكومة، بتعيين آمر لسرية بيت الدين وهو تقليدياً مسيحي يختاره الاشتراكي، من غير أصحاب الحظوة الاشتراكية، بل من الذين يستظلون اللون البرتقالي.
– الرسالة الاشتراكية واضحة أيضاً للشركاء الدروز في الجبل من غير أنصار الحزب الاشتراكي، بأن حدود وهوامش حضورهم مشروطة بابتعادهم عن شريك مسيحي وازن، يتطلع لحضور يناسب وزنه الطائفي في الجبل، وأنهم موضع ترحيب إذا رغبوا بالانضمام لمعادلة درزية داخلية بوجه المطالبة المسيحية التي يمثلها التيار الوطني الحر، وإلا فهم في عين الاستهداف السياسي وربما الناري، كما جرى في قبرشمون. والواضح أن الرسالة الاشتراكية تحظى بالتفهّم السياسي الواسع من خصوم التيار الوطني الحر ليس بداعي ما يسمّونه استفزازات خطاب باسيل، بل لأن التوازن السياسي القائم على قاعدة ما بعد الطائف حيث يشكل النائب السابق وليد جنبلاط أحد ركائز النظام الجديد يتعرّض للاهتزاز، ما بعد قانون الانتخابات النيابية الأخير ونتائجه التي قالت إن التمثيل المسيحي الذي توزعته بشكل رئيسي كتلتا المستقبل والاشتراكي خلال التطبيق السابق للطائف يتبدّل لونه، وأن ذلك سينسحب على التعيينات والتوظيفات، وأن تيار المستقبل الذي يحظى برئاسة الحكومة بموجب التسوية الرئاسية يجد تعويضاً عن هذه الخسائر، لكنه لا يستطيع تعويض الاشتراكي بدلاً عن خسائره، فعليه إما أن يتضامن مع الانتفاضة الاشتراكية أو ينتقل إلى جبهة الخصوم .
– مشكلة خطاب باسيل وضعفه أمام خطاب الاشتراكي أنه تشارك معه لغة الحساسيات والتوازنات والخصوصيات في مثال بلدة الحدث وقرارات بلديتها، وخطاب رئيس الجمهورية عن رفض الكانتونات مطالب بالتصرف العملي بعدما قال رئيس بلدية الحدث إن قراره البلدي الذي ينتهك الدستور يحظى بدعم رئيس الجمهورية. والقرار المناقض لمبدأ التساوي بين اللبنانيين أمام القانون وفقاً لمقدمة الدستور، لم يجد بالمناسبة أي منظمة مدنية أو هيئة حقوقية تطعن به قضائياً، رغم كثرة أدعياء الحرص على المدنية، وبدلاً من أن يقوم خطاب باسيل الساعي للتفوق على خطاب الاشتراكي على رفض الكانتونات، صارت معادلة الجيوش الإلكترونية المتقابلة «كانتوني أحلى من كانتونك».
– المشكلة التي لم يتمّ وضع الأصبع على الجرح فيها، هي أن زمن الحرب انتهى، ولن يعود، ولا يملك أحد القدرة على إعادته، وسيدفع كل مَن يحاول ذلك الثمن غالياً، لكن النظام الطائفي يحتضر، وهذه إحدى علامات موته، إنه لم يعد يتسع لأصحابه، فتطبيق الطائف وقيام دولة الطائف يمر على حساب بوابة الحزب الاشتراكي عملياً، وإسقاط الكانتونات يمرّ عبر إسقاط حدود جمهورية الحدث عملياً.
– الحوار حول تطبيق الطائف سيجد تعويضاً عن الكانتون في الجبل، بمراعاة جرى نقاشها في الطائف للخصوصية الدرزية، وفي قلبها الزعامة الاشتراكية، كان عنوانها رئاسة مجلس الشيوخ، مع السير بانتخابات نيابية خارج القيد الطائفي، وانتخاب مجلس للشيوخ على أساس تمثيل طائفي كامل، بمثل ما وجد في تثبيت المناصفة في وظائف الفئة الأولى وتخصيص بعضها المهم لمسيحيين والأهم بالحفاظ على رئاسة الجمهورية للمسيحيين تعويضاً عن التغيير الديمغرافي وتراجع حجم الحضور المسيحي العددي، لكن شرط ذلك كله التسليم بأن الدولة لن تقوم على قاعدة التقاسم الطائفي، «على السكين يا بطيخ»، إلا إذا شهر أركانها سكاكينهم بوجه بعض وطعنوا بها ظهور بعض وخواصر بعضهم للبعض، وقد آن الأوان للقول إن قيام دولة وإزالة الكانتونات يتفوقان على ما عداهما، وإن خطاب التفوق السياسي أو الطائفي هو مشروع حرب أهلية لن تقع، لكنها ستمنع لبنان من الحياة، ومَن لا يصدق فلينظر إلى موسم الصيف كيف تسقط أحلام اللبنانيين فيه سقوطاً مدوياً بسبب «الأبواب» و«الشبابيك»، والحكاية ستكون كحكاية إبريق الزيت، لأنه وفقاً لمنطق الطائف والطوائف والخصوصيات ومراعاة التوازنات، الكل يشعر أن لديه ما يكفي من القوة والحماية كي يضرب بيده على الطاولة، ويشعر أن له الحق بخصوصية ومراعاة ويمثل ركناً في توازنات، وقد تسقط الطاولة لكن أحداً لن يتراجع.