أيّ جدوى لطاولة الحوار إذا قوامها من أهل السلطة وحدهم؟
د. عصام نعمان
كلّ المؤتمرات وطاولات الحوار الوطنية، بما فيها مؤتمر الطائف سنة 1989، كان قوامها دائماً من أهل السلطة ما جعل الإصلاحات الناجمة عنها تأتي على مقاسهم. لذا بقي لبنان يرتع منذ الاستقلال سنة 1943 في دوامة من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتناسلة.
اليوم تُنسب الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون دعوةٌ الى تأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية المنصوص عليها في المادة 95 من الدستور. كما يدعو وزير الخارجية ورئيس تكتل لبنان القوي النيابي جبران باسيل الى عقد طاولة حوار وطني للبحث في الأزمات المستعصية.
هل يجوز بعد أكثر من سبعين سنة من الأزمات ان يُصار الى تأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية او طاولة للحوار الوطني من أهل السلطة أنفسهم؟
في آخر انتخابات نيابية جرت منذ نحو سنتين أعلنت وزارة الداخلية انّ 49 في المئة من مجموع الناخبين فقط شاركوا فيها، وانّ 51 في المئة امتنعوا. مردُّ الامتناع بل المقاطعة انعدامُ الثقة بأهل النظام، حاكمين ومعارضين. فأيُّ جدوى تُرتجى من تأليف هيئات وطاولات للحوار الوطني من اجل الإصلاح إذا كان صانعو الأزمات هم الذين ينتدبون أنفسهم لمعالجتها؟
لا يُردُّ علينا بأنّ المادة 95 من الدستور تنصّ على كيفية معينة لتأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية تقضي بأن يكون رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء أعضاء فيها، ذلك أنها تنصّ ايضاً على أن تضمّ شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية ، ليسوا بالضرورة من النواب او العاملين في إدارات الدولة.
مع العلم انّ المطلوب ليس إقامة هيئة وطنية دستورية او في إطار المؤسسات الدستورية القائمة بل مؤتمر للحوار الوطني يكون مرآة للمجتمع السياسي بكلّ تلاوينه وفئاته الإجتماعية ليأتي الحوار تعبيراً صادقاً عمّا يعتمل داخل مكوّنات المؤتمر المطلوب.
صحيح ان لا صلاحيات تنفيذية للمؤتمر الوطني المنشود، لكن الأفكار والمقترحات التي ستصدر عنه سيكون لها بالتأكيد فعالية توجيهية لدى المسؤولين والمواطنين، وربما سيؤخذ بكلها او ببعضها بعد تشكيل حكومة وطنية جامعة لهندسة الخروج من حال الأزمة المزمنة التي ترتع فيها البلاد.
ثمة نظرية معروفة في القانون العام مفادها انّ الظروف الاستثنائية تستوجب تدابير استثنائية. فقد قامت في فرنسا خلال فترة احتلالها من الألمان في أربعينيات القرن الماضي مجالس بلدية غير منتخبة وفقاً للقوانين والأنظمة المرعية الإجراء صدر عنها قرارات بالغة الأهمية كفرض ضرائب جديدة لتأمين إيواء المواطنين النازحين وتوفير حاجاتهم المعيشية. وبعد زوال الاحتلال قام مجلس الدولة الفرنسي، وهو المحكمة الدستورية العليا، بإجازة التدابير الصادرة عن تلك المجالس البلدية خلال فترة الاحتلال عملاً بنظرية الظروف الإستثنائية.
لبنان يمرّ حالياً بظروف استثنائية بالغة الصعوبة، فلا ضير إنْ أقدم رئيس الجمهورية، بالتفاهم مع رئيسيّ مجلسيّ النواب والوزراء وحتى منفرداً اذا تعذّر التفاهم، على إقامة مؤتمر وطني للحوار تتمثّل فيه كلّ شرائح المجتمع السياسي ويكون مدعواً خلال مهلة محدودة الى مناقشة ورقة عمل مقدّمة منه أو من غيره موضوعها الوحيد اجتراح قانون جديد للانتخابات على أساس النسبية في دائرة وطنية واحدة يتضمّن الإجراءات القانونية اللازمة لتفعيل المادة 22 من الدستور التي تقضي بإقامة مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي وآخر للشيوخ لتمثيل الطوائف على ان يُعرض على استفتاء عام وتصبح أحكامه نافذة بمجرد نيله خمسين في المئة على الأقلّ من أصوات المشاركين.
لتفادي احتمال تأليف المؤتمر الوطني للحوار من أهل السلطة أنفسهم، يُستحسن ان يقوم رئيس الجمهورية أو الرؤساء الثلاثة بدعوة النواب الى التوافق على أسماء أربعين منهم لتمثيلهم في المؤتمر المُراد له ان يتكوّن من مئة عضو. وإذا تعذّر عليهم التوافق، يرفعون الى رئيس الجمهورية قائمة بأسماء خمسين منهم جديرين بتمثيلهم على ان يقوم الرئيس او الرؤساء الثلاثة بإختيار أربعين منهم ليكونوا أعضاء في المؤتمر.
يمكن اعتماد الكيفية نفسها بالنسبة لهيئات المجتمع السياسي إذ تُدعى الى التوافق على أسماء خمسين شخصية لتمثيلها في المؤتمر، واذا تعذّر عليها التوافق، ترفع الى الرؤساء الثلاثة أسماء ستين شخصية جديرة على ان يقوم الرؤساء الثلاثة باختيار خمسين منهم لتمثيلها في المؤتمر.
يبقى من حق رئيس الجمهورية ان يختار عشرة أعضاء للمؤتمر من كلّ الشرائح لتفادي ايّ نقص في تمثيل المجتمع السياسي. بذلك يتمكّن اللبنانيون من الحصول، لأول مرة منذ الاستقلال، على قانون للانتخابات يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته ولا يكون مخالفاً للدستور.
كلّ ما ورد أعلاه ممكن نظرياً، لكن هل ممكن تنفيذه عملياً؟
الحقيقة انّ الذين عانوا ويعانون التجارب المرّة التي أوقع أهل النظام البلاد فيها منذ سبعين عاماً ونيّف يتحفظون عن إمكانية التنفيذ بل يستبعدونها، وبالتالي يبقى السؤال الخالد مطروحاً: ما العمل؟
وزير سابق