إقالة بولتون إقرار بتفتُّت العصر الأميركي!
د. وفيق إبراهيم
يقولون في معرض التبرير إنه مجرد مستشار للأمن القومي لكنه يلي إقالات لنحو 17 وزيراً ومستشاراً ومسؤولين أمنيين وقيادات عسكرية تركوا منذ 2014 مناصبهم في ولاية الرئيس دونالد ترامب وفي سابقة لا مثيل لها في تاريخ البيت الأبيض.
لذلك فلا ترتبط هذه الإقالات بتناقض أمزجة كما يحلو للبعض تفسيرها، أو بِولهٍ ترامبي بجذب الإعلام والاهتمام الداخلي والخارجي ليبقى محوراً يتابعه العالم.
هناك عنصر ثابت بين الأسباب التي دفعت الرئيس دونالد ترامب الى طرد هذا العدد الكبير من المسؤولين في إدارته، فثلاثة أرباعهم رفضوا الاتجاهات التصعيديّة لسياسات ترامب في العالم، خصوصاً لجهة رشقه الأصدقاء والأعداء بعقوبات مماثلة، بالإضافة الى أساليبه البدائية غير المحترفة في العلاقات الدبلوماسية والداخلية وثقافته السياسية المتدنية.
أما الآخرون فاحتجوا على طغيان ثقافة البورصة وأساليب السمسرة على امبراطورية أميركية تجيد جذب الدول بوسيلتين: الهدوء السياسي المتمكّن ومبدأ القوة.
لجهة مستشار الأمن القومي جون بولتون فتميّز بتعبيره عن السياسية الأميركية الأكثر تطرفاً التي تلتزم بمبدأ القوة معياراً وحيداً لتأمين تفوّق الامبراطورية الأميركية، ولا تلتزم خارجياً إلا بمصلحة «إسرائيل»، فتميل حيث توجد مصالحها. وكيف لا وهناك اللوبيات اليهودية الأميركية التي تسيطر على الإعلام والمصارف، بما يعني سيطرتها على جزء هامّ من الناخبين الأميركيين.
يتبيّن عمق التقاطعات بين ترامب وبولتون بانتمائهما إلى أقصى يمين الحزب الجمهوري اليميني اصلاً، وولائهم لـ»إسرائيل» والإنجيليين الأميركيين ومحاولاتهم جذب الطبقات الشعبية الأميركية وذلك بطرد العمالة الأجنبية وخصوصاً المكسيكية منها.
خارجياً دفع بولتون الرئيس ترامب الى سياسات خارجية معادية لروسيا والصين والهند والمانيا وإيران وسورية وفنزويلا، وصولاً الى حدود الدفع باتجاه حروب كبيرة، مهدّداً حتى الحلفاء بها، هذا ما اضفى عليه بعداً تشديدياً يرتكز على صداقة مفرطة لـ»إسرائيل» محاولاً إنهاء ازمتها مع الفلسطينيين من جهة والعرب من جهة ثانية والإسلام من جهة ثالثة.
فأضعف الفلسطينيين بتقليص المدى الجغرافي والإمكانات الأمنية والسياسية لسلطتهم في رام الله متهماً حماس والجهاد بالإرهاب والعمالة لإيران عاملاً على تطبيق صفقة قرن تنهي القضية الفلسطينية. وجذب الى هذا المنطق دول الخليج ومصر والأردن والمغرب والسودان كما أطبق على الدول الإسلامية التي اصيبت بذعر من ترامب فأيدت بصمت مشروعه لصفقة القرن، ولم ترفضها الا إيران المعادية للنفوذ الأميركي والعدوانية الاسرائيلية منذ 1979 وتحالفت مع سورية وحزب الله لمجابهتها إسرائيلياً وأميركياً وارهابياً.
لقد حاول نهج بولتون ترامب وضع العالم العربي في مواجهة إيران بتسعير فتنة سنية شيعية تحول الأبصار من عداء عربي – إسرائيلي الى عداء سني لإيران الشيعية، مستخدمين كل أدوات الترويج والتسويق الإعلامية وبعض الاتجاهات الإسلامية والارهاب الداعشي والقاعدي ومنابر بعض الدول العربية لتعميق هذه الفتنة.
ماذا كانت نتيجة مشروع ترامب بولتون العالمي والعربي والإسلامي؟
أدّت سياسات الاستعداء الأميركي للدول الكبرى الى ولادة تحالفات روسية صينية لها بعد إيراني وهندي وسوري وأميركي جنوبي.
اما الترجمة الميدانية فتبدأ بالتراجع العسكري والسياسي الأميركي في سورية والعراق واليمن مع تقهقر من المدى الشرق اوسطي عموماً.
كذلك فإنّ المشروع الأميركي في كوريا الشمالية أصيب بجمود فيما يواصل رئيسها كيم جونغ أون التجارب النووية والصاروخية في بلاده والبحار المحيطة وسط مراقبة أميركية عاجزة.
وفنزويلا بدورها التي وعد بولتون بإسقاط نظام مادورو فيها، ومنذ خمسة اشهر فلا تزال قوية فيما فرت المعارضة التي راهن عليها بولتون الى الخارج، للتذكير فإن فنزويلا هي البلد العالمي الأول بالاحتياطات النفطية.
وكان بولتون دفع بسيده ترامب للانفتاح على طالبان في أفغانستان لتحقيق ايّ اتفاق ولو كان وهمياً لاستثماره في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فانتهت المفاوضات التي كانت على وشك النجاح بهجوم لطالبان سقط فيها جنود أميركيون.
بالنتيجة فإنّ سياسات التصعيد البولتونية الترامبية ادت الى عداء مع روسيا والصين وحلفائهما واهتزاز العلاقة بأوروبا وصمود فنزويلا وسورية، واليمن وقطاع غزة وبالتالي قضية فلسطين.
فوجدت السياسة الأميركية انّ استمرارها في التصعيد لن يؤدي إلا الى خسارتها آخر جزء تملكه من نظام تعدد الاقطاب.
فبدأت بإعداد سياق تغييري، يبدأ بإقالة بولتون مع تحميله مسؤولية التراجع الأميركي في حركة للتمويه عن المُتسبب الأصلي اي ترامب وفريقه الفعلي.
فيكون بولتون ضحية لانتصارات حققتها إيران وسورية والصين والهند وفنزويلا، فهل يكون ايضاً بداية لإلغاء سياسات التصعيد الأميركية؟
منطق موازنات القوى الجديد يؤكد ان الأميركيين مكرهون على تنازلات تكشف عن بداية تشكل العالم المتعدد القطب، فترحل الأحادية الأميركية ومعها صورة بولتون من دون شاربيه، ويبدأ عصر تنافس دولي يؤدّي تلقائياً الى إعادة الاعتبار النسبية للقانون الدولي والتنافس السلمي المشروع.