جنون أميركي لحذف لبنان من معادلة الإقليم
د. وفيق إبراهيم
يضغط الأميركيون منذ عشرة أيام تقريباً على لبنان بوسائل مختلفة اقتصادية وسياسية، وأخيراً عسكرية تتفرّع الى آليّتين: تهديدات إسرائيلية تقليدية والعودة الى دبلوماسية التهديد بالأساطيل على الطريقة البريطانيّة القديمة.
لماذا هذا الاستهداف؟ الأميركيون يسيطرون على جزء كبير جداً من السياسة اللبنانية منذ وراثتهم للنفوذ الفرنسي الكبير في لبنان، متصاعداً الى حدود الإمساك الكامل بالدولة اللبنانية وتوزيع آلياتها على قوى الإقليم المنصاعة لهم كالسعودية او المتمردة عليهم كسورية.
لكنهم ابتدأوا بالتراجع مع تصاعد دور حزب الله في مجابهات تحرير الجنوب اللبناني بين 1982 و2000 مروراً بضرب القوات الغربية المتعددة الجنسيات في ثمانينيات القرن الماضي وصولاً إلى وقف الاستباحة الإسرائيلية للبنان في 2006 واحتواء بعض التمرّد الداخلي بالقوة 2006 .
تؤرّخ هذه المراحل الاستثنائيّة لصعود سياسي كبير لحزب الله في السياسة اللبنانية، لم يستثمرها لبناء نفوذ سياسي له في مؤسسات الدولة، بقدر ما استعملها لمنع الاستسلام للنفوذ الأميركي ـ الإسرائيلي وتوفير بناء سياسي داخلي لمبدأ الدفاع عن لبنان في وجه «إسرائيل» والإرهاب. ونجح في مراميه بالتحالف العميق مع التيار الوطني الحر وحركة أمل والمردة والأحزاب القومية والوطنية وبعض الاتجاهات الداخلية التقليدية مؤمّناً غالبية نيابية ووزارية تدافع عن هذه الوجهة.
لم يستحسن الأميركيون هذا التحوّل، ساعين الى تفجيره بأساليب سياسية وأخرى بنشر الفوضى والضغط الاقتصادي، وتوتير صراعات الطوائف بنقلها الى مستوى احتراب فعلي، لكنها آلت الى فشل ذريع، ما أتاح لحزب الله الى جانب دوره الجهادي ضدّ «إسرائيل» في الالتحاق بمعركة حلف المقاومة ضدّ الإرهاب العالمي في سورية، لذا بذل الحزب جهوداً تاريخية في ميادين سورية لمجابهة أعنف محاولة أميركية لتفكيك سورية والعراق وبالتالي إعادة الإمساك بلبنان واليمن وتفجير إيران.
يكفي أنّ الرئيس المصري السيسي اعترف للمرة الأولى باستخدام دولي للإرهاب لتفجير سورية بهدف تفكيك المنطقة، مؤكداً أن لا دور لهذا المشرق من دون سورية، وكاشفاً بأنّ جهات دولية وإقليمية استجلبت هذا الإرهاب ودرّبته وموّلته في قواعد محيطة بسورية لتأمين أهدافها التفجيريّة. وهذا تصريح صاعق من حليف للأميركيين يتهم فيه السعودية وتركيا وقطر بأشكال مباشرة وغير مباشرة بمحاولة تفجير الإقليم، وهذا غير ممكن بالطبع من دون الإذن والرعاية الأميركيين.
هؤلاء لم يكونوا يتوقّعون سحق الإرهاب في ميادين سورية والدور الطليعي لحزب الله في هذه المهمة، بالإضافة الى نجاحه في دحر الإرهاب الداخلي في شرقي لبنان وبيئته الشماليّة والمخيمات ومناطق أخرى، ما أدّى الى تزايد نفوذ حزب الله السياسي بشكل مغاير لصعود القوى اللبنانية على طريقة الاستثمار الاقتصادي والطائفي.
كان الحزب مهتمّاً بتأمين نصاب راجح لفكرة الدفاع عن لبنان، متمكّناً عسكرياً وسياسياً في ما ذهب إليه، وهذا ما أصاب الأميركيين بجنون، فحلفاؤهم مترنّحون من الضعف والإعياء لسقوط ذرائعهم السياسية، والدليل انهم أميركيّو السياسة في مرحلة لم يعد لدى أميركا من مكان إلا «إسرائيل» فقط.
هذه النتائج اللبنانية ـ السورية ازدادت قوة من صمود إيران في وجه أعنف حصار تاريخي تتعرّض له دولة في بقاع العالم، فيما كان المعتقد أنّ هذا الحصار يؤدي الى تدميرها وبالتالي الإمساك بالإقليم بكامله.
هذا التدهور الأميركي المتفاقم دفع بالبيت الأبيض الى معاودة سياسات الاستحواذ على لبنان، لذلك أيّدت هجمات إسرائيلية على الضاحية، لكن ردّ الحزب بقصف أهداف عسكرية في «أفيفيم» الإسرائيلية صعقها ودفعها الى وقف التصعيد، فعاودت أساليب الضغوط الاقتصادية، وأرسلت معاون وزير خارجيتها شينكر الذي ربط أمام مسؤولين لبنانيين بين مفاوضات إسرائيلية لبنانية مباشرة وبين السماح باستثمار الغاز إلى جانب تقليص دور حزب الله في لبنان والإقليم، وتسوية الخلافات الحدودية.
لكنه لم يلقَ تجاوباً، فانكفأ ساخطاً معلناً أنّ حزب الله إرهابي ويجب على الدولة اللبنانية ان تحاربه بكلّ الطرق الممكنة.
أما مساعد وزير الخزانة لتمويل شؤون الإرهاب مارشال بيلينغسلي فقصف لبنان بأسوأ الأوصاف عندما قال انّ مصرف لبنان وحاكمه منزعجان من هيمنة حزب الله على النظام المصرفي، زاعماً انّ إدارته تدقّق في أوضاع كامل المصارف والمؤسسات المالية لكشف مدى توغل حزب الله واستفادته من تفاعلاتها في الأسواق، مهدّداً بأنّ أسماء كثيرة من سياسيين واقتصاديين لبنانيين من طوائف وأعراق مختلفة قد تشملها العقوبات.
بدوره معاون وزير الدفاع الأميركي اتهم إيران وحزب الله بتعطيل الديمقراطية في العالم العربي وهي تهمة مثيرة للضحك والاستهزاء من دول عربية ديكتاتورية تحظى بحماية أميركية لاستبدادها.
وفي إطار استكمال الضغوط، سعى الأميركيون لضخ عشرات اللبنانيين الذين كانوا يتعاملون مع «إسرائيل» في مراحل احتلالها بين 1982 و 2000، وذلك في إطار خطة لإنعاش التراجع السياسي للقوى المحسوبة عليها في السياسة والجيش، ومنهم بالطبع العميل الفاخوري والعشرات الذين دخلوا خلسة ويعملون على تشكيل خلايا في معظم المناطق اللبنانية.
إلا أنّ هذا التصعيد لم يكفِ الأميركيين فعادوا الى أساليب الإقناع بالبوارج الحربية، الطريقة القديمة التي كان يستعملها الأسطول البريطاني للسيطرة على الدول الضعيفة.
فالبارجة الأميركية من الأسطول الخامس التي استقبلت في مرفأ لبناني سياسيين لبنانيين على طريقة الانصياع التاريخية للمستعمر، حاولت أن تضخّ معنويات لحلفاء أميركا في لبنان، ألم يكن أوْلى لها لو ذهبت لنشر معنويات لدى السعوديين بعد قصف مصفاتهم في بقيق وضريح التابعة لشركة أرامكو؟
أما المثير أكثر للهراء فهو التعهّد الهاتفي الذي قال فيه الرئيس الأميركي ترامب لنتنياهو إنه عازم على عقد اتفاقية دفاع مشترك بين بلاده و»إسرائيل»! وذلك لضرب حزب الله مباشرة بواسطة الجيش الأميركي!
تكشف هذه الضغوط المستوى المتفاقم للتراجع الأميركي مقابل الصعود الكبير لحزب الله عسكرياً وسياسياً في الداخل والإقليم بما يكشف صعوبة أيّ استهداف له في أيّ مكان. وهذا مؤشر على استمرار المناعة اللبنانية في وجه مشاريع التفجير الأميركية والإسرائيلية وربما الخليجية أيضاً.