الأميركيّون يريدون «أهدافاً» لا تُشعِل حرباً إقليمية!
د. وفيق إبراهيم
الأميركيون في وضع لا يحسدون عليه، لانهم يجزمون بأن إيران أساءت الى صورتهم كقوة عظمى وحيدة في الخليج، عسكرياً وسياسياً ولم يتمكنوا بالمقابل من الرد عليها او تأديبها على الاقل.
لكنهم يعرفون ايضاً أن قصف منشآتها ينتج حرباً كبيرة، كما ان التعرض لأي من مراكزها الثانوية لن يمرّ حبياً، فماذا هم فاعلون؟
منذ تشكل الدولة الاسلامية في إيران في 1979 عملت اربعة اطراف على اسقاطها: الاميركيون والاسرائيليون والحكم العراقي في مرحلة صدام حسين والخليج السعودي. اما السبب فعداؤها للنفوذ الاميركي واتباعه من الخليجيين والاسرائيليين.
لقد بدأ التحدي الإيراني لاميركا بنجاحها في إلحاق هزيمة بالهجوم العسكري «الصدامي» عليها بين 1980 و1988 وكان معروفاً انه هجوم عراقي بتمويل خليجي وتغطية اميركية كاملة.
لكن هذه الحرب لم تكبح الاندفاعة الإيرانية نحو مقارعة النفوذ الاميركي في لبنان، حيث بدأ حزب الله بأعنف مقاومة تواجه «إسرائيل» منذ احتلالها فلسطين المحتلة، ونجحت بتحرير والغاء العبث الاسرائيلي بأراضيه واجوائه وبحره.
كما دعمت المقاومة العراقية وحشدها الشعبي في حربهما ضد الارهاب وداعميه مع تشكيل ميزان قوى مجابه للاحتلال الاميركي لا يزال يعمل على طرده من ارض الرافدين.
إلا ان الميدان السوري شكل الضربة التي حشرت النفوذ الاميركي الاقليمي في زاوية ضيقة، باعتبار ان تخطيطه الاساسي ذهب نحو إضعاف العراق بتقسيمه الى ثلاث دويلات لحماية الخليج وتدمير سورية وتقسيمها لحماية «إسرائيل» على ان يجري انشاء حلف اسرائيلي خليجي على انقاض القضية الفلسطينية وإيران الاسلامية.
وهكذا يتضح ان إيران مع الدولة السورية وحزب الله والعراق مع حشده الشعبي أصابوا مقتلاً من المشروع الاميركي وحوّلوه من الهجوم للسيطرة على كامل الاقليم الى جبهة تريد الدفاع عن الأجزاء الاكثر اهمية اقتصادياً بالنسبة اليها.
لجهة اليمن، فإن تراجع الهجوم السعودي الاماراتي المدعوم غربياً وعربياً واسرائيلياً عليه، اثار بدوره موجة ذعر سعودية خليجية متهمين إيران بدعم الصمود اليمني.
ولان انصار الله اليمنيين يعرفون ان الحرب على بلادهم هي جزء من الصراع بين الاميركيين وحلف المقاومة فقرروا ان يوجهوا صواريخهم وطائراتهم المسيّرة نحو نقاط الانجذاب الغربية نحو الخليج اي مصافي النفط والغاز، والمواقع الاقتصادية التي يرتكز عليها النظام الغربي والمطارات التي يستعملها كاشفاً بذلك ان مئات مليارات الدولارات من السلاح الذي اشترته السعودية منذ عقود ليس اكثر من «خردة» حديد تحت نيران الشمس الحارقة، كما وصفته صحيفة اللوموند ديبلوماتيك الفرنسية.
كان يمكن للاميركيين ان يبرروا ان تراجعاتهم بأنها «كرٌ وفرٌ» في ميادين لا تزال مفتوحة لمجابهات.
لكن فتح إيران الطريق للعودة الروسية الى الإقليم أغضب البيت الابيض مقدماً سياسات ناجحة قابلة للاقتداء بالتمرد على الاميركي.
هناك اضافتان تسهمان بالمزيد من وضع الشرق الاوسط على حافة حرب: وهما خروج الاميركيين من الاتفاق النووي في 2018 واستصدار أشرس عقوبات وحصار في التاريخ اعلنهما الاميركيون على إيران وكان طبيعياً ان تتوتر الاوضاع في الخليج، حيث البقرة هناك لا تحلب إلا ذهباً من النفط والغاز والانظمة المحلية المستسلمة للنفوذ الاميركي حصراً والغربي عموماً.
وكان من الطبيعي إزاء التشديد الاميركي بحصار إيران ومحاولاته السيطرة على الملاحة في الخليج ان تحدث مناوشات عسكرية كشفت عن المزيد من الضعف الاميركي الغربي وأدت الى اصابة سفن وناقلات نفط قرب بحر عمان ومصادرة إيران لناقلة بريطانية وإسقاط طائرة مسيرة اميركية شديدة التطور اخترقت سيادة إيران.
كل هذه المناوشات حدثت من دون ردود فعل اميركية عليها على الرغم من الصراخ الخليجي والدعوات الاسرائيلية الى الحرب. وكان ترامب يكتفي بخطابات من النوع الفكاهي متوعداً بالحسم في مراحل لاحقة، ومشجعاً العديد من الأطراف على التوسط سراً لإنهاء الخلاف مع إيران انما بطريقة يحفظ بها ماء وجهه.
لكن الامور ذهبت عكس ما يشتهيه ترامب، ففي اطار سياسات المجابهة اليمنية للاستهداف السعودي للمدنيين في معظم اليمن طور انصار الله اساليب للاقتصاص من الحلف الغربي السعودي بالاستهداف الدقيق لمصافي النفط الاساسية في السعودية واختراق حدودها عند اعالي صعدة.
فنجحوا بسلسلة إصابات عالية المستوى من ينبع حتى المناطق الشرقية مفجّرين مصافي الشبوة لكن ما اصاب النظام الغربي في قلبه، هي تلك الاصابات التي فجرت مصفاتي «بقيق وخريص» على بعد الف كيلومتر من حدود اليمن، فتعطل إنتاج نحو ستة ملايين برميل لمدة تزيد عن الأسبوعين ومعظمها تستورده دول غربية، فهذه كمية تشكل نصف انتاج اكبر بلد نفطي في العالم يشكل النفوذ الاميركي الاساسي في عالم الطاقة والتأثير في العالمين الاسلامي والعربي.
لذلك فهناك رعب سعودي وسخط في الداخل الاميركي وقلق خليجي وجنون اسرائيلي للتردد الذي يمنع الرئيس الاميركي ترامب من مهاجمة إيران باعتبارها البلد الداعم لأنصار الله، هذا بالاضافة الى إحساسهم بأن القصف على السعودية تبنته اليمن ونفذته إيران لقربها الجغرافي من الأماكن المستهدفة، وهذه تهمة لا إثبات عليها، لذلك يجد الاميركيون أنفسهم في وضع دقيق.
لانهم يدعون حماية الخليج، لكنهم لا يفعلون شيئاً عند تعرض اهم المصالح الاقتصادية فيه للقصف.
هناك اذاً معادلة تدفع البيت الابيض الى ضرورة قصف إيران، لكنه لا يتجرأ لأنها تؤدي بسرعة لحرب اقليمية مديدة قد تطول أكثر من الحرب الاميركية على افغانستان، والمؤكد أن إيران معرضة للضرر فيها، لكن بلدان الخليج معرضة اكثر لتدمير فعلي يدفع باتجاه اضطرابات داخلية تسقط انظمتها، ولا يستطيع الاميركيون قصف العراق لأنهم موجودون فيه، فلا يبقى على لائحتهم إلا اليمن البلد المتبني لعمليات القصف، فهل يهرب الاميركيون نحو قصف مراكز لانصار الله في اليمن؟
وهذه بدورها قد تحدث حرباً اقليمية واسعة، لذلك يراهن الاميركيون على تقدم في المبادرة الفرنسية الاوروبية لتخفف من سعير الحرب مع إيران وتعيد اطراف النزاع اليمني الى مفاوضات ستوكهولم في السويد، فيحافظون بذلك على نفوذهم الخليجي معترفين بشكل غير مباشر بالدور الإيراني الكبير في الشرق الاوسط.