سدّ النهضة الإثيوبي.. مشروع صهيونيّ انتقامي!!
سماهر الخطيب
لم يكن حال بلاد الفراعنة ببعيد عمّا عانته بلادنا من أطماع تحت مسمّى «إعمار» فجاء الاستعمار بما يكتنزه من مطامع ومصالح وأجندات لينفّذها في منطقتنا عقب خلاصنا من الاحتلال العثماني الذي دام ما يفوق الأربعة قرون تحت مسمّى «الخلافة»..
ولأنّ منطقتنا على امتدادها في أنحاء العالم العربي تحوي ما تحويه من ثروات وحضارات إلى الآن لم يستطع العلماء إلا اكتشاف الجزء القليل من خفاياها وأسرارها، وما تمتلكه المنطقة من موقع استراتيجي على مرّ العصور وحتى التطور التكنولوجي لم يكن بديلاً لهذا الموقع الهام في الجغرافية الاستراتيجية.. فإنّ حال مصر كحالنا لكونها إحدى أهم دول المنطقة كانت الأطماع والمكائد تُحاك لها من كل حدب وصوب وبشكل خاص حين قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس عام 1956 وتحدّي الغرب بهذا الإجراء غير المعهود من دولة عربية، وصولاً إلى بناء السد العالي عام 1960، حيث خصّص الناصر عائدات القناة لتمويل السد بالإضافة إلى الاقتراض من السوفيات بعد أن سحب البنك الدولي للإنشاء والتعمير عرضه لتمويل السد تحت تأثير الضغوط الاستعمارية من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية.. فأصبح السد بنكاً مركزياً للمياه في بحيرة ناصر ساهم في استصلاح وري مساحات شاسعة من الأراضي وولّد محطة كهرومائية عملاقة بقرار سيادي وتمويل داخلي.. وما يؤكد أهمية هذا السدّ التقرير الدولي الصادر عام 2005 عن الهيئة الدولية للسدود والشركات الكبرى تقرّ للمرة الأولى بأن مشروع السد العالي هو أعظم مشروع هندسيّ شيّد في القرن العشرين..
واليوم تواجه مصر مشروعاً إذا حدث فعلاً يجعل السد العالي بل نهر النيل إحدى أساطيرها، ولن يكون لأحفاد الفراعنة ما كان لهم بالأمس من إمدادات نهر النيل.. هذا المشروع هو مشروع «سدّ النهضة» الإثيوبي في الظاهر والصهيوني الأميركي في الباطن. ولا شك هنا الوجود الصهيوني وراء فكرة وتمويل هذا المشروع خاصة أنّ أكثر من 150.000 «إسرائيلي» هم من أصول إثيوبية، وأنّ العلاقات الصهيونية الإثيوبية ممتدة لما وراء العلاقات الدبلوماسية التي تأسست عام 1992 والزيارات الرسمية بينهما بالأمس القريب، بل يتعدّاها إلى شراكة استراتيجية، التعاون فيها يتعدى العلاقة الثنائية ليصل إلى القضايا الإقليمية والدولية، عمل الكيان الصهيوني خلالها على تقوية علاقاته بجميع الدول الإفريقية خاصة إثيوبيا، فارتفعت صادرات «إسرائيل» التكنولوجية إلى إثيوبيا بنسبة 500 بالإضافة إلى قيام عدد من رجال الأعمال «الإسرائيليين» بزيارات دورية لإثيوبيا. الأمر الذي يؤكد الجدية «الإسرائيلية» في تطوير علاقاتها التجارية بإثيوبيا.
ومَن يتابع ملف المشروع الإثيوبي يعلم بأنّ «إسرائيل» هي التي حرّضت إثيوبيا على بناء هذا السّد، وقدّمت لها القروض والخبرات الهندسيّة في هذا الصّدد، من أجل تهديد أمن مِصر، وتقليص حِصصها المشروعة من المياه. ومن المعروف أيضاً أنّ حصة مصر من مِياه النيل تبلغ حوالي 55.5 مليار متر مكعّب سنوياً، في مُقابل 18 مليار متر مكعّب للسودان، دولة المصب الأُخرى، من مجموع 84 مليار متر مكعّب وهي مجموع حجم تدفّق مياه نهر النيل سنوياً فيما تقول الأبحاث إنّ هناك 150 مليار متر مكعّب أخرى تتبخّر بفعل الحرارة سنوياً.
وما تريده مصر، هو ألا تتأثر حصتها مطلقاً جرّاء ملء خزان سد النهضة، تجنّباً لأيّ أضرار أو حتى مجاعات وانخفاض إنتاج الكهرباء في السّد العالي..
في حين يخطر في البال اليوم ذاك الشعار الصهيوني الذي أطلقه منذ زمن بقوله «حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل».. وماذا لو دعمت مشروعاً كبيراً بهذا الحجم كسد النهضة ليس في النيل فحسب، بل في منابع النيل وبالتالي العودة إلى ما كتبه بنيامين نتنياهو في كتابه «بوابة تحت الشمس» حينما قال بأنّ كيانه ليس بحاجة إلى خوض حرب وخسارة الأرواح والأسلحة في حين أنه يستطيع التمدّد عبر علاقاته الاقتصادية والثقافية والتجارية مع بلدان المنطقة..! وللأسف ما تقوم به البلدان «العربية» بداعي مناكفة ومضايقة مصر بدعمها لهذا المشروع يصبّ في المصلحة الصهيونية التوسعية في المنطقة.. ولا نستبعد أن تستمر دولة الاحتلال المزعومة في دعم الموقف الإثيوبي من خلال حثّ راعيها الأميركي لتبنّي موقفها، خاصة أنّ أميركا حليفة للطرفين «المصري والإثيوبي» في مقابل المكافأة الإثيوبية للكيان الصهيوني بالاعتراف به كـ»دولة»، وفسح المجال له لتوثيق علاقاته بدول أفريقية أُخرى، كما سبق وذكرنا كللت تلك المكافأة باستضافة بنيامين نِتنياهو في أديس أبابا، ومُخاطبة اجتماع لمنظمة الوحدة الأفريقية..
أما الموقف السوداني فهو من جعل نفسه متفرجاً منذ عهد الرئيس عمر البشير إلى اليوم متناسياً أنّه دولة تتشارك مياه النيل مع هاتين الدولتين تاركاً القرار لدول غربية وعربية تتحكم به وفقاً لمصالحها جانياً من موقفه بعض الملاليم لما يعانيه، من فقر في مؤسساته ولو أنه أدرك قيمة مياهه وما يملكه من ثروات لكان هو مَن يعطي الأموال ويصدّر البضائع…
فيما جاءت صحوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، متأخرة حينما أكّد في تصريحاته أنه «لن يتم تشغيل سد النهضة بفرض الأمر الواقع ولا بُدّ من الحِفاظ على حصّة مصر المائية كاملة»، واتّهامه إثيوبيا بـ»استغلال ضعف مصر بسبب أحداث عام 2011 للمُضي قُدماً في إقامة سد النّهضة الذي سيكون له تأثير كبير على مصر وأمنها المائي والقومي». جاء هذا الاتهام متأخراً أيضاً فما تقوم به إثيوبيا من مفاوضات معلوم فشلها قبل انعقادها هو شراء للوقت في سوق التفاوض حتى تكون قد انتهت من إنجاز السّد الذي سيحقق حلم «إسرائيل» في السيطرة على المنابع المائية والأنهار وفرض شعارها كأمر واقع برعاية أميركية وانشغال عربي في حربهم ضدّ بعضهم البعض متناسين عدوّهم الحقيقي المتمثل بالكيان الصهيوني الخبيث على أرضنا الطاهرة..
وفي العودة إلى تفاصيل سدّ النهضة، فإننا سنعود معه إلى الدول المتشاطئة على نهر النيل التي كانت مستعمرات لدول أجنبية قبل حصولها على استقلالها، وبالتالي ظهرت أولى الاتفاقيات لتقسيم مياه النيل عام 1902 في أديس أبابا قبيل استقلال تلك الدول، فعقدت الاتفاقية بريطانيا بصفتها «ممثلة لمصر والسودان وإثيوبيا»، ونصَّت على «عدم إقامة أي مشروعات سواء على النيل الأزرق، أو بحيرة تانا ونهر السوباط»، ثم عام 1906، عقدت اتفاقية بين بريطانيا وفرنسا «المستعمرتين»، وظهرت عام 1929 اتفاقية أخرى بين مصر وبريطانيا، تتضمن إقرار دول الحوض بـ»حصّة مصر المكتسبة من مياه النيل، وإن لمصر الحق في الاعتراض في حالة إنشاء هذه الدول مشروعات جديدة على النهر وروافده». وفي هذه الاتفاقية كانت بريطانيا حينها تمثّل كلاً من كينيا وتنزانيا والسودان وأوغندا، وتمّت هذه الاتفاقية لتنظيم استفادة مصر من بحيرة فيكتوريا، وتخصيص نسبة 7.7 من التدفق للسودان و92.3 لمصر.
أما في الأعوام التي امتدت من 1956 1964 فتمّ تحديد الموقع النهائي لـ»سد النهضة الكبير الإثيوبي» بواسطة مكتب الولايات المتحدة للاستصلاح وهو إحدى إدارات الخارجية الأميركية، خلال عملية مسح للنيل الأزرق أجريت بين عامي 1956 و1964 دون الرجوع إلى مصر، حسب اتفاقية 1929. ويتضح جليّاً من هذا الإجراء الأميركي في الوقت الذي تزامن مع إنشاء السد العالي وتأميم قناة السويس كمية الغضب الأميركي البريطاني لما أقدم عليه جمال عبد الناصر حينها من تجاوز للخط الأحمر الغربي وصنع سيادة مصرية بعيدة عن التدخلات الأجنبية إلا أنّ من خلفه على كرسي الحكم أضاع تلك السيادة بجموح نحو الأميركي فكانت عملية المسح للموقع التي قامت بها الحكومة الإثيوبية ما بين تشرين الأول 2009 وآب 2010، تحديّاً للسيادة المصرية وفي تشرين الثاني 2010، تم الانتهاء من تصميم السد.
وفي 31 آذار 2011، وبعد يوم واحد من الإعلان عن المشروع، تم منح عقد قيمته 4.8 مليار دولار دون تقديم عطاءات تنافسية للشركة الإيطالية Salini Costruttori، وفي 2 نيسان 2011 وضع رئيس وزراء إثيوبيا السابق ملس زيناوي الحجر الأساس للسد، وبالتالي كما قال السيسي تم استغلال أحداث عام 2011 في مصر بل ولربما أشعلت تلك الثورة لتغطية ذاك المشروع المدمّر للشعب المصري عامة..
ومن الأخطاء المصرية أيضاً عهد دراسة هذا المشروع إلى لجنة فنية بدلاً من عهده إلى لجنة سياسية أمنية لما يشكله من مخاطر الخاسر الوحيد فيها كما العادة الشعب.. إلا أنّ الحكام متناسون تماماً ومغيبون عن أنّ صراعنا مع اليهود هو صراع وجود ولم يكن يوماً صراعاً على الحدود.. فتأمل رعاك الله..