التقدّم العسكري السوري في شمالي الفرات يُجهض المشروعَيْن

العميد د. أمين محمد حطيط

استكمالاً لسلوكيات العدوان على سورية قام أردوغان بغزو الشمال السوري شرقي الفرات من اجل إقامة ما أسماه المنطقة الآمنة وشرع في تنفيذ عملية عسكرية وسَمَها بما يناقض طبيعتها معتمداً اسم «نبع السلام». وكان أحرى به تسميتها «منع السلام». هذا السلام الذي كانت تعيشه سورية الى أن شنت الحرب الكونية عليها، وكان أردوغان رأس الحربة في هذه الحرب والقائد الميداني لأول خطة عدوان نفّذها الاخوان المسلمون في سياقات هذه الحرب.

اعتمد أردوغان لعدوانه الأخير ذريعة «الخطر الكردي» المتمثل بإقدام الأكراد السوريين المنضوين تحت لواء حزب العمال الكردستاني المعادي للدولة التركية، على السعي لإقامة كيان انفصالي قد يتحوّل مستقبلاً إلى صاعق يفجّر الوضع داخل تركيا التي فيها 20 مليون كردي تهدّد معارضتهم إن وقعت وحدة الأراضي التركية أو في أقل تعديل تهدد الأمن القومي التركي.

زعم أردوغان أنه واتقاء لهذا الخطر، شرع في تنفيذ عملية «نبع السلام « التي هي كما أسلفنا عملية «منع السلام» في سورية وتهدّد في حال نجاحها، وحدة الأراضي السورية وتقود الى تغيير ديمغرافي يتم عبر فرز وتهجير وتوطين يجعل المنطقة في مشهد مختلف كلياً عن وضعها التاريخي ويقلبها الى منطقة من لون ديمغرافي واحد واتجاه سياسي اخواني ونفوذ تركي. فالعملية العسكرية التركية «نبع السلام» تهدف حقيقة الى ضم أرض سورية بشكل ملتوٍ وبطريقة قدّم الترك نموذجها في عفرين وبعض ريف ادلب حيث بات التتريك واضحاً وطمس الهوية العربية مؤكداً. فالمشروع التركي ظهر في لبوس أمني، أما حقيقته فهي سياسية جغرافية ديمغرافية توسّعية وهو نوع من أنواع المحاولات التركية لمراجعة اتفاقية لوزان التي حددت حدود تركيا الحاضرة والتي تدّعي تركيا أنها سلخت منها قطاعاً بطول 1100 كلم وبعمق يصل إلى 40 كلم ويشمل الموصل في العراق والحسكة وحلب ضمناً في سورية.

لقد اعتمد أردوغان هذا المشروع ليتخذه جائزة ترضية بديلة للجائزة الكبرى التي كان يحلم بها نتيجة انخراطه في ما أسمي «الربيع العربي « والحرب الكونية على سورية، حيث حلم بإقامة الامبراطورية العثمانية الثانية المتكئة على تنظيم الاخوان المسلمين والممتدة من تونس غرباً الى سورية والعراق شرقاً، لكن متغيرات الإقليم والميدان أسقطت الحلم وانكفأ أردوغان الى حلم الاقتطاع ليكون الحل البديل حتى لا يخرج من الميدان خاسراً خاوي الوفاض. وهذا ما يفسّر كل التحركات والعلاقات والسلوكيات التركية في السنوات الثلاث الأخيرة.

أما بعض الكورد السوريين فقد صدقوا انفسهم أن بإمكانهم بناء كيان انفصالي في سورية يقوم على مساحة تتعدى 42 ألف كلم2 أربعة أضعاف مساحة لبنان وتكاد تكون ربع مساحة سورية وتشكل الخزان الطبيعي للثروات السورية من نفط وماء وزراعة. ولو فكّر الأكراد قليلاً لكانوا وصلوا الى قناعة يبلغها الناس العاديون البسطاء وليست بحاجة إلى خبراء ومفكرين كبار، ولكان عرفوا أن حلمهم مستحيل التحقيق لدواعٍ سياسية كل المحيط يرفض كيانهم وديمغرافية هم أقلية مليون شخص تسبح في أكثرية مليونين من السوريين غير الأكراد وجغرافية لا اتصال لها بالبحر ويسهل حصارها وخنقها ، لكن الأكراد قفزوا فوق هذه الحقائق وصدقوا الغرب بقيادة أميركا ومضوا في العمل كأدوات لهم ظناً منهم أن مشروعهم سيقوم بقوة هذا الغرب.

في مواجهة العدوان العام وهذين المشروعين بشكل خاص خاضت سورية حربها الدفاعية معتمدة خططاً واستراتيجيات وضعت فيها الاولويات الميدانية، وفقاً للإمكانات المتاحة. وتمكنت سورية بعد 8 سنوات من الدفاع أن تستعيد أكثر من 70 من أرضها وأن تطهّرها من الإرهاب ولم يبقَ في برنامجها الا منطقتان في الشمال: الأولى غرباً في إدلب ومحيطها، حيث تجمّع الإرهابيون في حشد تجاوز الـ 65 الفاً برعاية تركية، والثانية شرقاً وهي المنطقة التي يتصارع عليها المشروع الكردي مع المشروع التركي وتمارس فيها أميركا احتلالاً مباشراً عبر وجود بضعة آلاف من جنودها يوفرون المظلة والحماية والدعم للأكراد في مشروعهم، حيث ظنّ الأكراد أنها ستكون دائمة وكافية لإنجاز ما يبتغون.

وبالتالي كانت تركيا حاضرة في المنطقتين بصيغة أو بأخرى، والتزمت في إدلب بمخرجات استانة التي وضعت آلية للمعالجة وللتحرير على مراحل، أما في شرقي الفرات – المنطقة التي لم تقارب مباشرة وتفصيلاً بمخرجات استانة فقد ترك أمرها للتطورات المقبلة. لهذا كانت الأولوية السورية قائمة على إنجاز ملف إدلب في أستانة أو بالقوة العسكرية للجيش العربي السوري وحلفائه، يليها تحرير شرقي الفرات وفقاً لما يتيحه الظرف.

في ظل هذا التشابك ماطلت تركيا في القيام بالتزاماتها في إدلب ما أخّر العملية وأجبر الجيش العربي السوري للعمل وفقاً لمقتضى الحال وحقق إنجازات هامة ودق جرس الإنذار لتركيا التي عادت ومنذ شهرين وجدّدت التزاماتها في تحرير إدلب لكنها ومرة أخرى تنصلت ونكلت واتجهت الى شرقي الفرات لتنفذ مشروعها بالقوة التي حضّرتها والتي تتشكل من التنظيم الذي أطلقت عليه اسم «الجيش الوطني السوري» وينضوي فيه اكثر من 80 ألف مسلح من 14 تنظيم إرهابي يعملون بإشراف مباشر من المخابرات التركية وتساندهم تشكيلات عسكرية برية وجوية من الجيش التركي النظامي يصل مجموعها إلى 60 ألف جندي.

وبعد تحضير وتنسيق دولي ظنّت تركيا أنه كافٍ لتمرير عمليتها العسكرية، خاصة بعد قرار أميركا بالخروج من القطاع الشمالي للفرات وبعد ضبابية روسية مدروسة تقتضيها مستلزمات العمل، ووضوح إيراني تفرضه المبدئية السياسية الإيرانية اندفعت تركيا بواسطة جيشها بفرعيه، القوات الإرهابية المنضوية في «الجيش الوطني السوري» مسنودة بالجيش التركي لتنفيذ المشروع التركي ووضعت الأكراد في ظل التخلّي الأميركي والدولي العام عنهم أمام واحد من خيارات ثلاثة:

الأول: مواجهة الهجوم التركي رغم عدم التوازن في القوى واحتمال الإبادة الجماعية أقله في المنطقة التي أعلنت تركيا بأنها ستقيم عليها المنطقة الآمنة 460 كلم جبهة و35 كلم عمق . هذا إذا لم تندفع القوات التركية في حال تحقيق الإنجاز سريعاً الى عمق قد يصل الى اجتثاث كل قوات قسد.

الثاني: الانكفاء الى الداخل دون قتال بعيداً عن مشروع المنطقة الآمنة والتظلل بما تبقى من مظلة أميركية مؤقتة وانتظار ما سيحدث دون تدمير القوى.

الثالث: العمل مع الحكومة السورية والعودة الى اتفاق معها وتسليمها مهمة الدفاع عن الوطن في مواجهة قوات الغزو التركي دون التخلي ضمناً عن الأحلام السياسية الذاتية.

لقد تبين للكورد أن الحل الأول سيكون بمثابة انتحار مؤكد، وأن الخيار الثاني مقامرة غير مضمونة، وبقي أمامهم الخيار الثالث فعملوا به ولجأوا الى روسيا ليوسّطوها بعد أن كانوا صمّوا آذانهم عن نداءاتها للعودة الى حضن الدولة مع ضمان حقوقهم بالمواطنة العادلة. وتلقفت سورية عودة الإبن الضال ولم تتوقف عند ما يروّج من شروط وأقاويل، فالجيش العربي السوري وبطلب لا بل بتوسّل من قسد وبترحيب عارم من الشعب السوري هو المسؤول عن الدفاع عن حدود الوطن وبات في الخطوط الأمامية لقطع الطريق على الاحتلال التركي الذي لن تجرؤ تشكيلاته بنوعَيْها على مواجهته مهما كان الظرف، وما حصل في خان شيخون ونقطة المراقبة التركية في جوارها خير مثال.

إن تسليم الأكراد بدور الجيش العربي السوري في شرقي الفرات رغم ما يمكن أن يضمروا في نفوسهم، وإحجام الاتراك عن مواجهة الجيش العربي السوري المتقدم للتمركز على الحدود وفي كل المدن الكبرى في المنطقة، هما أمران من شأنهما القول بأنه بضربة واحدة وبعد صبر استراتيجي مبين، مقرون بحنكة وجهوزية سياسية وعسكرية أبدتها سورية وبذكاء ومناورة من الحلفاء إيران وروسيا، بكل ذلك وفي ساعات قليلة وجهت سورية ضربة قاصمة أولاً للمشروع الكردي الانفصالي الذي سقط بالضربة القاضية ولن يكون الجيش العربي السوري حارساً لحلمهم الانفصالي وثانياً للمشروع الاحتلالي التركي الذي سقط لانتفاء المبرّر ولن يغيّر في هذه الحقيقة قول أردوغان المتواصل أنه لن يوقف العدوان. فالأحداث تتسارع لتؤكد أن الحرب في سورية باتت في أيامها الأخيرة التي تحمل بشائر النصر لسورية المقاومة ولمحور المقاومة التي تنتمي إليه وباتت وحدة سورية حقيقة مستمرة لا تكسرها المشاريع ولا المؤامرات.

أستاذ جامعي وباحث استراتيجي.

اترك تعليقاً

Back to top button