قراءة أولية للقرارات الحكومية ومشروع إصلاحي حقيقي
علي يوسف
لا شك في أنّ الإجراءات الاقتصادية والإدارية وشبه السياسية التي اتخذتها الحكومة على اثر التحرك الشعبي، مهمة ومهمة جداً على الصعيد المالي وعلى اتجاهات المحاسبة والرقابة وعلى صعيد إعادة النظر في بعض المؤسسات الإدارية وموازناتها.
إلا أنّ كلّ ذلك لم تظهر ملامسته لتوجّهات اقتصادية محدّدة باستثناء البند الخجول المتعلق بدعم التصدير تاركة هذا الأمر إلى ملفات «سيدر» التي تحمل طابعاً استثمارياً يفترض أن يؤمّن فرص العمل ونسبة من النمو.
ورغم أنّ هذا الأمر جيد في الإجمال إلا أنّ لبنان بحاجة إلى ما هو أكثر من ذلك. هو بحاجة إلى رؤية اقتصادية وليس إلى توجّهات وإلى الانتقال من سياسة الاستجابة لمعالجة الأزمة إلى الفعل الاقتصادي الذي يرسم مساراً للتنمية المستدامة.
يمكن تصنيف الإجراءات الحكومية إلى محاور عدة:
1 ـ المحور المالي الموازنة
لا بدّ من التنويه بمعالجة نسبة العجز في موازنة العام 2020 وجعلها 0.63 في المئة. وكذلك في إقرار مشروع الموازنة في موعده الدستوري بما يؤشر إلى بدء انتظام عمل مؤسسات الدولة.
كما لا بدّ من التنويه بعدم فرض أيّ ضرائب جديدة ومساهمة مصرف لبنان والمصارف بخفض العجز بمبلغ 5100 مليار ليرة وخفض رواتب الرؤساء والوزراء والنواب وموازنات مجلس الإنماء والأعمار وصندوق المهجّرين ومجلس الجنوب وكذلك خفض عجز الكهرباء.
بل يمكن وصف هذه الإجراءات بالثورية نسبة إلى ما كانت عليه التوجّهات السائدة قبل الحراك الشعبي والتي كانت ترتكز إلى الضرائب غير المباشرة.
2 ـ المحور الاجتماعي
وهنا أيضاً لا بدّ من التنويه بالإجراءات المعلنة وأغلبها وعود تحتاج إلى متابعة وضغط لتنفيذها، خصوصاً أنّ بعضها كان قد طرح وأعطيت في شأنه وعود لم تتحقق لاحقاً. وهي تتناول مشروع ضمان الشيخوخة، مشروعي تمويل قروض الإسكان، مشروع برنامج دعم الأسر الأكثر فقراً.
3 ـ المحور الإداري
وهنا تدخل مجموعة كبيرة من الإجراءات تتناول إعادة النظر في المؤسسات العامة، إلغاء وزارة الإعلام، الطلب إلى الإدارات عدم القيام بأيّ إنفاق استثماري، تفعيل الالتزام الضريبي، دفاتر شروط التلزيم، دور إدارة المناقصات وإشراف مجلس الوزراء، تحضير مجموعة من القوانين في اللجان الناظمة، مخالفات الأملاك البحرية وتعديل رسومها، تسوية مخالفات البناء، إنشاء لجان وزارية وتكليف وزراء بمهام تتعلق بوزاراتهم إلخ…
وكلّ هذه الإجراءات في الحقيقة هي عبارة عن وعود لا يخفى على أحد أنها لن تقرّ إلا تحت الضغط رغم وضع مواعيد لإنجازها، وقد تسقط هذه المواعيد عند أول شعور بارتياح وتفلت من الرقابة إنْ كانت سياسية من أطراف سياسية أو شعبية.
4 ـ المحور الرقابي والمحاسبة
وهنا يحتلّ موضوع الوعد بوضع قانون لاسترداد المال المنهوب موقعاً مهماً إضافة إلى الوعود بتفعيل كافة أجهزة الرقابة بما في ذلك مشروع تركيب أجهزة السكانر على الحدود الذي في الحقيقة وإنْ كان يشكل عملية تحديث للرقابة إلا انه ليس من المؤكد أن يضع حداً للفلتان وللتهرّب الجمركي الناتج حكماً ليس عن أسباب فنية، وإنما عن أسباب سياسية وإدارية مرتبطة بها لأهداف التمويل السياسي. وبالتالي فإنّ نجاح التحديث مرتبط بمجموعة من التدابير يبقى تنفيذها رهناً بمدى جدية القرار السياسي بوضع حدّ للفلتان.
من هنا فإنّ كلّ ما يتعلق بالإجراءات المتعلقة بهذا المحور هي وعود يحتاج تنفيذها أيضاً إلى استمرار الضغط السياسي أو الشعبي أو الاثنين معاً على الحكومة.
5 ـ المشروع الإستراتيجي
ومن أهمّ الإجراءات التي اتخذتها الحكومة هي القرار بالسير في مشروع الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص في:
الهاتف الخلوي، بورصة بيروت وطيران الشرق الأوسط وشركة الشرق الأوسط لخدمة المطارات، مؤسسة ضمان الودائع، شركة سوديتيل وكازينو لبنان وشركة انترا ومرفأ بيروت وإدارة حصر التبغ والتنباك ومنشآت النفط وتكليف المجلس الأعلى للخصخصة بتعيين استشاري مالي وتقني وقانوني للبدء بتحضير دفاتر الشروط وإجراء التلزيمات.
وهنا يجب التوقف ملياً عند الملاحظات الآتية:
أ ـ إنّ الشركات المختارة للشراكة بين القطاعين العام والخاص هي شركات مربحة.
ب ـ إنّ هذه الشركات لم تتضمّن مثلا شركات الكهرباء في لبنان أو مشروع إنشاء شركات للنفايات وهي شركات يُفترض أن تكون مربحة في حال إنشائها وتأمين سير عملها وفق الأصول.
ج ـ يمكن إضافة أو إنشاء شركات خدمات في مختلف المجالات كالمستشفيات الحكومية مثلاً، البريد والنقل وحتى المياه إذا كانت تحت الشروط التي سنوردها لاحقاً.
انطلاقاً من ذلك يمكن القول إنّ هذه الإجراءات والقرارات تختلف عن سواها لكونها ذات طابع استراتيجي وهي تتعلق بموجودات وأملاك الدولة اللبنانية، وبالتالي فإنّ استخدامها لتأمين التمويل للدولة اللبنانية مشروع جيد إلا أنّ هذا الأمر يجب أن يقترن بسؤالين مركزيين عن كيفية استخدام هذا التمويل ومَن هي الجهة التي ستشتري موجودات الدولة التي هي ملكية الشعب اللبناني.
والأمر هنا يشبه إلى حدّ بعيد ثروة الغاز والنفط من حيث التوجّه لا من حيث الوضعية، فإذا كان الغاز والنفط بحاجة إلى شركات دولية نظراً لضخامة الاستثمار ولعدم التأكد من وضوح نتائجه، فإنّ الموجودات أيّ الشركات التي يجري الحديث عنها هي قائمة أو يمكن إقامتها وهي مربحة حكماً في حال أحسنت إدارتها، وبالتالي فالسؤالان المطروحان هما أكثر أهمية والإجابة عنهما تحدّدان ليس نوعية السلوك الاستثماري الناجح وإنما والأهمّ السلوك الوطني في الحفاظ على الموجودات الوطنية.
أقول هذا لأكمل أنه من الإيجابية الكبيرة إشراك القطاع الخاص مع القطاع العام في ملكية وموجودات الدولة أيّ ملكية الشعب اللبناني، ولكن من ضمن الحفاظ على استمرارية ملكية الشعب اللبناني لهذه الموجودات وليس عن طريقة بيع قسم منها إلى شركات أجنبية قد نعرف ظاهر ملكيتها دون معرفة من يملكها بالفعل.
أو لنفترض حتى لو كنا نعرف من يملكها، فلماذا نسمح بأن يملكها غير اللبناني إذا كان بالإمكان تمليكها للبنانيين والوصول إلى النتيجة الاقتصادية والمالية نفسها.
بناء عليه أقترح عرض الشراكة في هذه المؤسسات على المصارف اللبنانية، ولكن ليس بهدف أن تكون المصارف هي الشريك بل على أن تقوم هذه المصارف بتحويل المبالغ التي دفعتها إلى أسهم اسمية بقيم متدنية جداً تطرح على الجمهور في البورصة بحيث يمكن شراؤها من قبل أيّ لبناني مع شروط حدّ أعلى للتملك لتمكين أكبر عدد من اللبنانيين من تملك هذه الأسهم.
وهذه الخطوة لها مميّزات متنوّعة أهمّها عدم التفريط بملكية الشعب اللبناني لغير اللبنانيين وتفعيل الدور الوطني للمصارف اللبنانية بربط استثماراتها بالشعب اللبناني وليس فقط دورها الخدمي وبدء ثقافة اقتصادية جديدة تنقل علاقة المواطن بمؤسساته الخدمية من موقع الإفادة الخدمية التي كانت تشعره بأنه مستغَلّ إلى موقع المصلحة لكونها باتت من أدوات استثماراته.
إنّ اللجوء إلى مثل هذه الآليات الاقتصادية سوف يشكل ثورة في البنية الاقتصادية والمجتمعية للشعب اللبناني وفي علاقة مؤسّسات الدولة بالشعب اللبناني، وحتى إنْ لم يكن مبالغ بتعميق الانتماء الوطني والانتقال به من الهوية إلى التزاوج بين الهوية والمصلحة.
هو اقتراح قد يفاجئ البعض، ولكني أصرّ على أنه ثورة حقيقية في لبنان قد تكون بداية لثورات أخرى في مجالات أخرى.
أين الإصلاح السياسي؟
بغضّ النظر عما تضمّنته القرارات الحكومية من إيجابيات مالية مهمة جداً، وكذلك شكوك في تنفيذ عدد كبير من بنودها، فإنها بكلّ تأكيد لا تعتبر قرارات إصلاحية وإنّ انتقالها لتتحوّل إلى إصلاحية حقيقية تفترض استكمالها بالإصلاح السياسي الذي هو الشرط الأساسي لإصلاح حقيقي.
وللأسف إنّ التحرك الشعبي وضع سقوفاً للإصلاح السياسي استوردت من شعارات ما يسمّى بالربيع العربي من دون وعي حقيقي لطبيعة النظام القائم ولتكوينات المجتمع اللبناني.
فشعارات من نوع «كلن يعني كلن» و»الشعب يريد إسقاط النظام» هي شعارات توصل في مداها إلى الفوضى التي ستكون نتائجها كارثية وأخطر من نظام الفساد والنظام الطائفي.
ومع تباشير بدء انخفاض السقوف للتحرّك وإنْ تكن لا تزال مرتفعة، فإنّ تحوّل هذه السقوف إلى سقوف واقعية هي مسألة أساسية من دون أن يعني ذلك التخلي عن سقف إعادة النظر في النظام الطائفي القائم والذي يشرّع للفساد والنهب والمحاصصة وغيرها…
وكان يفترض بالحكومة والقوى السياسية المكوّنة منها أن تعي أهمية هذا الأمر وتعترف أنّ الاجتماع الوطني في الساحات يفرض إصلاحاً سياسياً لا بدّ منه ولتتمكّن القوى السياسية من الانتقال من ردود الفعل إلى الفعل وإلى التقدّم بخطوة عقلانية ومدروسة على التحرك، بحيث تكون المرحلة الانتقالية التي يجري التحدّث عنها من ضمن المؤسسات والبرامج السياسية وليس انقلابية غير محسوبة النتائج.
ويمكن القول إنّ عودة الحديث عن تشكيل هيئة إلغاء الطائفية السياسية بات متخلفاً عن التطورات الحاصلة وإنّ البديل هو قرار حكومي بإلغاء هذه الطائفية السياسية ووضع قانون انتخاب نيابي نسبي خارج القيد الطائفي خلال مهلة 6 أشهر على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة أو على الأقلّ السير تدريجياً باتجاه ذلك بتواريخ محدّدة مع اعتماد الدوائر الانتخابية الموسّعة جداً كبداية.
وهذا لا يلغي إنشاء مجلس الشيوخ كضمانة للطوائف، إذا كانت هناك ضرورة لذلك أو إصراراً من بعض الطوائف على هذا الموضوع لمعالجة «هواجس» عمرها من عمر لبنان.
إنّ هذه الخطوة الإصلاحية هي القادرة على إعادة تكوين السلطة على أساس وطني ينسجم مع ما شهدناه في بعض الساحات خلال الأيام الماضية.
وإنّ رفع التحرك الشعبي وبعض القوى السياسية، لهذا المطلب كأولوية يصحّح مسار التحرك ويعزز أهميته ويحاكي مستقبل لبنان وشعبه.
عضو مجلس نقابة محرّري الصحافة اللبنانية