الفقراء وحدهم تضرّروا من مسلسل قطع الطرقات… وجيد أنّ الجيش اتخذ القرار أخيراً بفتحها صرخة المزارعين غُيّبت وتجار المرحلة استغلوا المستهلك وساعات تدريس إضافية تعويضاً عن أيام التعطيل القسري
تحقيق ـ عبير حمدان
أنهى الجيش مسلسل قطع الطرقات حين بات جلياً أنّ هناك استغلالاً واضحاً لصرخة الناس الذين خرجوا في السابع عشر من تشرين الأول رفضاً للضرائب ولسياسة الإفقار، وكان من الممكن لو استمرّ الضغط على الناس الرافضين لمنطق تقطيع أوصال المناطق ان تُجرّ البلد الى الفوضى.
ليل الأحد انهمرت انهمرت البيانات بإسم «الثورة» المزعومة على وسائل التواصل الاجتماعية كافة واستفاقت الناس على طرقات مقطوعة بالسواتر الترابية والحجارة.
وحين فقد المشهد عفويته وسقطت المطالب الشعبية في فخ الكانتونات والتقسيم المناطقي والطائفي، رأينا في كلّ زاروب جهة تراهن على مضاعفة مكتسباتها السياسية من خلال الشارع بحجة المطلب المحق الذي يُراد به الباطل.
هذا الواقع الذي أرخى بثقله على جزء كبير من الناس ساهم في تفاقم الأزمة والانقسام بين من يرى أنّ «مطالبه» ولو لم تعد محدّدة وواضحة ومنطقية لن تتحقق إلا من خلال الشارع، وبين من يريد التغيير والخلاص من نظام المحاصصة والفساد ولكنه أيضاً يريد تحصيل لقمة عيشه والوصول الى عمله كي لا يخسره، فمن كان مسؤولاً عن تضييق الخناق على الناس؟ وهل مفهوم «الثورة» يترجم على هذا النحو؟
أسئلة كثيرة حاولت «البناء» إيجاد أجوبة عليها لدى المزارعين وفي المحال التجارية عن تلك المرحلة الصعبة ولسان حال «الفقراء» أكد انّ الخسائر كبيرة، منهم من طلب عدم ذكر اسمه كي لا تصبح خسارته علنية قبيل أوانها، ومنهم من اعتبر انه لا يملك سوى التعبير ولو على صفحة جريدة في مواجهة إعلام آخر لا يرى المشهد إلا بعين واحدة.
المزارع في مواجهة قطاع الطرق
ليل الأحد عُزِلَت قرى البقاع الأوسط كلياً وعلا صراخ المزارعين وموزعي الخضارمن خلال وسائل التواصل الاجتماعي، تواصلت «البناء» مع عدد من المزارعين في البقاع واكدوا أنّ قطاع الطرق حاربونهم في لقمة عيشهم.
محمد النجار كفردبش قال: «هذه التظاهرات لم تعد تمثلنا ونحن الذين نعمل طوال السنة في الزراعة وننتظر المواسم لتحصيل لقمة العيش فيأتي قطاع الطرق ليسرقوا منا لقمتنا بحجج واهية. قطع الطرقات يهدّد منتوجاتنا بالكساد وإذا تمكنا من إيصالها إلى سوق الفرزل نبيعها بأقلّ من كلفتها مما يفاقم خسارتنا».
أضاف: «نحن مقبلون على فصل الشتاء ولدينا التزامات فهل يعوّض علينا من يقطع الطريق خسائرنا ويدفع لنا ثمن المازوت وأقساط المدارس وكلفة الموسم، لقد تمّ عزل قرانا كلياً مع العلم أنّ مشكلتنا في تصريف الإنتاج قديمة ولكن في ظلّ ما يسمّونه «ثورة» بات التصريف مستحيلاً، من يريد مواجهة الفساد عليه أن يبدأ بنفسه أولاً ومن يقطع الطرقات أكثر فساداً من الفاسدين في السلطة».
لا يختلف رأي حسن عباس العزير شمسطار كثيراً عن زميله وزاد عليه: «كنا نسلم الخيار والبندورة واللوبيا بألف ليرة وهو سعر يضمّ الكلفة والربح واليوم أصبح السعر 500 ليرة أيّ أقلّ من سعر الكلفة وهذا الهبوط في الأسعار انسحب على كافة منتوجاتنا الزراعية مع العلم أنّ الخضار يصل إلى المستهلك بأسعار مرتفعة وبالطبع هناك من يستفيد من الوسطاء الذين ينقلونه إلى الأسواق، وهم التجار الكبار ولا من حسيب أو رقيب، من هنا نرى أنّ قطع الطرقات عمل ممنهج ومقصود ولا علاقة له بمطالب الناس المحقة ومن يدفع الثمن نحن كمزارعين ومن هم مثلنا من المستهلكين أي الطبقة ذات الدخل المحدود جداً».
من جهته قال حاتم الحاج حسن شمسطار : «المتضرّر الأول من قطع الطرقات هو المزارع والثاني هو المستهلك، فالمزارع يبيع منتوجه بثمن بخس والمستهلك يبتاعه بأسعار مرتفعة جداً، نحن نقطف الخضار بعد الظهر ونقصد سوق الفرزل قبيل الفجر أيّ الساعة الثالثة والنصف تقريباً فنجد مجموعات تقطع علينا الطريق أحياناً نضطر ان نسايرهم كي يسمحوا لنا بالمرور أو ننتظر ان يصلهم القرار لفتح الطرقات وبالتالي فإنّ حمولتنا تصل بعد 24 ساعة وتكون قد خسرت من قيمتها الكثير فتُباع بسعر زهيد، والمستهلك المضطر أن يشتريها من الأسواق في سواء في البقاع أو في بيروت أو في أيّ منطقة يدفع اضعاف الثمن».
وأضاف: «ما نشهده من قطع للطرقات ما هو إلا سياسة ممنهجة بحق منطقة بعلبك الهرمل المعروفة بموقفها المقاوم ونحن لن ننجرّ الى فخ التصعيد خاصة أنّ هناك جهات سياسية معروفة تقف خلف قطع الطرقات…
في الفرزل القوات يقطعون الطريق أمام الناس، وفي المرج يقطعها الإسلاميون وانضمّ إليهم تيار المستقبل، وهذه ليست «ثورة» إنما قطع لأرزاق الناس في مختلف القطاعات، حيث أنّ السوق السوداء دفعت بالكثيرين إلى إقفال محالهم التجارية بعد ارتفاع سعر الغاز وفقدانه نسبياً وقد ينسحب الأمر على المازوت وغيره من المستلزمات الضرورية».
أما حسين عرار تمنين فقال: «قطع الطرقات جعل خسائري كبيرة ولا مجال لتعويضها مطلقاً، أنا استثمر كروماً من العنب البلدي الذي في الأصل يعاني من مشكلة في التصريف لأسباب كثيرة، ولكن اليوم المشكلة تفاقمت، كنت أبيع الكيلو للتقطير بـ500 ليرة ولكن الحصار الذي نعاني منه جراء قطع الطرقات وعزل منطقتنا كلياً أصبح سعر الكيلو 200 ليرة فمن يعوّض عليّ خسائري؟ نحن مزارعو البقاع نحاول إيفاء ديون متراكمة علينا منذ سنوات وهذا العام أصبحنا نرزح تحت دين أكبر في ظلّ واقع لم نسعَ إليه بل يتمّ فرضه علينا بأسلوب ميليشياوي لا علاقة له بمطالب الناس المحقة على الاطلاق».
دراسة أونلاين
التعطيل القسري للمدارس أثر سلباً على الطلاب والأهالي في نفس الوقت بحسب تعبير الحاج عبد مسلماني الذي قال: «من يريد تحصيل مطالب محقة فليفعل ولكن دون ان يضيّق على جزء كبير من الناس من خلال قطع الطرقات ويحول بينهم وبين تحصيل لقمة عيشهم، هذا من جهة، ومن جهة ثانية ما هو ذنب الطلاب كي يضيع عليهم العام الدراسي جراء الإقفال القسري للمدارس»؟
أضاف: «أولادي الثلاثة ينتظرهم الامتحان الرسمي هذا العام والتعطيل القسري للمدارس الذي فرضه قطّاع الطرق لم يجلب لهم ولنا سوى الضرر، اليوم بدأت المدارس بساعات تدريس إضافية أيّ يوم السبت مع الكثير من الضغط في إعطاء الدروس في محاولة لإنهاء المنهاج في الوقت المحدّد كي لا يتمّ تأخير موعد الامتحانات لأنّ التأخير إذا حصل سينسحب ذلك على الدورة الثانية وبالتالي سيتأخر العام الدراسي المقبل…!
في النهاية هناك أطراف مشبوهة ومعروفة من الجميع تساهم في خراب البلد وتهديد مستقبل الأجيال من خلال تقطيع أوصال المناطق وفرض التعطيل الذي لا يفيد الطالب ومن واجب القوى الأمنية معالجة المشكلة جذرياً كي لا يتكرّر مشهد الإطارات المشتعلة والسواتر الترابية ويزيد الاحتقان لدى جزء كبير من الناس وهذا الاحتقان لن يؤدّي إلا إلى الفوضى».
من جهتها قالت أم علي: «حين قرّرت العودة من بلاد الاغتراب والاستقرار في بلدي لم أتصوّر يوماً أني قد أشعر بالندم على اتخاذي هذا القرار، ولكن ما نشهده اليوم يبعث على الخوف، أنا لديّ ولدان وهما اليوم محبوسان في المنزل جراء التعطيل القسري للمدارس بسبب قطع الطرقات، وقد اعتمدت مدرستهما إرسال الدروس من خلال بريد الكتروني فهل المطلوب أن يصبح التدريس «اونلاين» وكأننا نراسل مدارس او جامعات أجنبية! وبماذا يخدم هذا التصرف اللامسؤول الذي يقوم به مَن لا عمل لهم سوى أذية الناس حين يقطعون الطرقات ويعزلون المناطق وربما يصل بهم الامر أن يطلبوا تصريحاً للمرور؟ هذه ليست «ثورة» وحتى إنها فقدت شرعية تسميتها كانتفاضة في وجه الفساد لأنّ ما يحصل هو وجه آخر للفساد».
أما م.ج طالب فقال: «العام الماضي خسرت فرصتي في إكمال الدراسات العليا في أهمّ جامعات فرنسا بسبب إضراب الأساتذة الذي دام 50 يوماً، وكنا ندعم مطالبهم رغم ما يلحق بنا من أذى وضياع للسنوات الدراسية والجهد، أما هذا العام بدأ التعطيل بسبب قطع الطرقات أمام الأساتذة والطلاب على حدّ سواء، مع الإشارة إلى أنّ انتفاضة الشعب ضدّ الضرائب محقة ويجب أن يسمعها كلّ من في السلطة وأن يرضخوا للمطالب المعيشية، الضغط الشعبي يجب أن يكون على النظام السياسي الفاسد وليس على الناس الذي يجهدون لتحصيل العلم ولقمة العيش».
سيارات الإسعاف لم تسلم أيضاً
من جهته أكد مكرم غصوب: «أنا مع ثورة الناس على الفساد والظلم ومع مطالبهم المحقة في الإطار المعيشي ومع محاسبة السياسيين الفاسدين، ومع إسقاط النظام الطائفي وبناء الدولة العلمانية المدنية المشرقية.. ولكن كلّ ثورة ذات غايات اجتماعية إنسانية لا بدّ ان تعتمد الوسائل والأساليب الإنسانية والأخلاقية في التعبيرعن مطالبها ويجب ان يتمتع أصحابها بالرقي والاحترام للذات قبل الغير. ولكي يُكتب لأيّ ثورة النجاح والاستمرارية يجب ان تبلور رؤية واضحة وشفّافة وتقودها عقول واعية تحدّد مطالبها الوطنية الجامعة الواضحة وترسم خطة تليق بالأهداف السامية، ومن هذا المنطلق أعتبر أنّ اعتماد منطق الغاية تبرّر الوسيلة يسقط الثورة وقيمها وأهدافها قبل أن تتحقق».
ويستطرد: «أنا من موقعي الوظيفي الاجتماعي أحارب الفساد منذ زمن، ومحاربة الفساد الحقيقية تبنى على المطالبة بالحق العام المجتمعي وليس بالحقوق والحاجات الفردية الشخصية لأنّ قيمة الحقّ وقيمة الحقيقة والخير والجمال هي في كونها إنسانية نفسية، إنها قيَم مجتمعية ولذلك كتبت: «الفرق بيننا، تطالب بحقّك، أطالب بالحقّ» و»حين تثور الشعوب من أجل واجباتها كما تثور من أجل حقوقها تصبح ثوراتها وطنية إنسانية».
وفي ما يتصل بقطع الطرقات وسلبياته قال: «يوم الاثنين كنت محاصراً في زحمة الزلقا ـ جل الديب الناتجة عن منطق قطع الطرقات، من جهتي تحمّلت ولكن بينما كان المتظاهرون يقطعون الطريق الرئيسية يرقصون ويغنّون كان هناك العديد من سيارات الإسعاف العالقة في الزحمة غير القادرة على إيصال المرضى بحالاتهم الخطرة الى مستشفيات المنطقة. حينها سألت نفسي ورغبت أن يسأل كلّ متظاهر نفسه ماذا كان ليفعل لو كانت سيارة الإسعاف في تلك اللحظات تنقل والده أو والدته أو ولده الى المستشفى ولا تستطيع الوصول؟ من الإجابة تبدأ الثورة الحقيقة… لا قيمة لأيّ ثورة إنسانية، كلّ ثائر فيها لا يثور على ذاته أولاً».
وقالت منى عطوي ربة منزل : «حين خرج الناس يطالبون برفع الضرائب عنهم وإيقاف سياسة الإفقار والفساد اعتقدنا أنّ هذه العفوية في التعبير قد تشكل فارقاً ولكن لم يمرّ يومان حتى تحوّل المشهد وبدأ مسلسل قطع الطرقات الذي خنق الناس حيث بدأت أسعار الخضار والمواد الغذائية بالارتفاع ونحن مضطرون أن نشتري حاجاتنا يومياً وحين نعترض يجيب البائع أنّ البضاعة تصل بصعوبة بسبب قطع الطرقات، ومنها ما بدأ بالنفاذ وإنْ توفرت فإنّ أسعارها مرتفعة جراء تحكمها السوق السوداء، وبعيداً عن هذه المشكلة اليومية أنا مثلاً لم اتمكن من زيارة والدتي في الجنوب في ظلّ مسلسل قطع الطرقات».
وفي جولة على محال بيع الخضار والمواد الغذائية ومواد التنظيف بدا الخوف من شبح الإقفال مسيطراً على أصحاب هذه المصالح الصغيرة، ولم يرغب أيّ منهم بذكر أسمه لكنهم أكدوا أنه حسناً فعل الجيش حين فتح الطرقات. وبحسب قول أحدهم «أنّ طلبيات كبيرة تقف عند نقطة المصنع الحدودية وسيضطر لدفع كلفة تخزينها في أقرب نقطة ممكنة إلى أن يصبح العبور يسيرأ كي تصل إلى بيروت، وبالطبع هذا الأمر فيه خسارة كبيرة فهل هناك من يعوّض على التجار الصغار في ظلّ ارتفاع سعر صرف الدولار وإمكانية تلف البضاعة وكلفة تخزينها وماذا استفاد الذين قطعوا الطرقات حين ساهموا في قطع أرزاق الناس».
رغم فتح الطرقات يبقى هناك تخوّف من تكرار المشهد والرهان الأول والأخير هو على وعي الناس كي يحافظوا على حقهم بالتظاهر دون أيّ تأثير سلبي على آخرين يسعون فقط لتحصيل لقمة عيشهم، وكلّ الأمل أن يبقى الحراك تحت سقف المطالب المعيشية ومكافحة سياسة الإفقار والفساد والمحاصصة وصولاً الى بناء وطن موحد لاطائفي ليحصل المواطن على حقوقه المشروعة.