الفساد في الوطن العربي… إلى أين؟!
د. محمد سيّد أحمد
لا يوجد مجتمع بشري خالٍ من الفساد، والوطن العربي آفته الأساسية الآن هي الفساد، وإذا ما أخذنا مصر مثالاً فسوف نجدها مثل كلّ المجتمعات شهدت خلال تاريخها الممتدّ عبر آلاف السنين أشكالاً متعدّدة من الفساد، لكن ما تبلور في مصر من فساد منذ مطلع السبعينيات وحتى الآن لا يمكن أن يضاهيه كلّ ما مرّ في مصر والعالم من أشكال الفساد. فمنذ أعلن الرئيس السادات عن تخلي مصر عن مشروعها الوطني والقومي والتنموي لصالح مشروع التبعية والانفتاح والتخلف، والفساد ينمو بشكل سرطاني في جسد الوطن، فلا يمكن أن أنسى مقولات البسطاء من أهالينا في المناطق والأحياء الشعبية الفقيرة حين يتحدثون عن الرئيس السادات وأيامه وكنا في ذلك الوقت أطفالاً وصبية صغاراً لا نعرف شيئاً عن مبادئ الاقتصاد والسياسة انّ من لم يغتنِ في عصره لن يرى غنى أو نعمة من بعده .
وعندما كبرت وبدأ وعيي يتشكّل أدركت أنهم يتحدثون عن الانفتاح الاقتصادي والسمسرة والمضاربة والسرقة والنهب والاتجار في كلّ شيء دون وازع من أخلاق أو ضمير، فسمعنا عن ظواهر اجتماعية تنمّ عن انهيار تامّ في منظومة القيم داخل المجتمع. وترسّخت في ذهني مقولة الكاتب الصحافي الكبير أحمد بهاء الدين للرئيس السادات نفسه إنّ هذا الانفتاح يشكل وبالاً على الشعب المصري لأنه انفتاح سداح مداح والذي بفضله ظهرت أنواع وأشكال متعدّدة من الفساد.
ويأتي الفساد الكبير في المقدّمة، ذلك الفساد الذي تجسّد في البداية في ما أطلق عليه القطط السمان مجموعة من الفاسدين الكبار الذين يرتبطون بعلاقات وطيدة مع السلطة السياسية وصلت الى علاقات مصاهرة مع رأس الدولة ذاته، وتاجر وسمسر هؤلاء في كلّ شيء حتى كوّنوا ثروات ضخمة. وبدأنا نسمع عن أصحاب الأرانب أيّ المليون جنيه فتشكلت مجموعة من المليونيرات من أصول اجتماعية واقتصادية لم تكن تسمح لهم بتشكيل تلك الثروات غير المبرّرة.
لكن تحالفاتهم مع السلطة السياسية هي التي منحتهم فرصة تكوين هذه الثروات بطرق مشروعة أحياناً وغير مشروعة غالباً. وهذا النوع من الفساد الكبير ظلّ موجوداً بل دخلت عليه تطوّرات كبيرة خلال حكم الرئيس مبارك، وهو ما تبلور مؤخراً في شكل مجموعة من رجال الأعمال الذين يسيطرون على الاقتصاد الوطني غير المنتج عن طريق علاقات وثيقة الصلة بالسلطة السياسية، تحوّلت في أواخر عصر مبارك الى بروز ظاهرة تزاوج رأس المال والسلطة، فأصبحوا شركاء لمبارك في حكم مصر.
أما النوع الثاني فهو الفساد المتوسط والذي بدأ ينمو وينتشر داخل الجهاز البيروقراطي للدولة حيث وكلاء الوزارات وكبار المديرين ونوابهم ورؤساء الأقسام داخل شركات ومصانع ومؤسسات الدولة المختلفة، والذين تعاملوا مع المال العام على أنه مال خاص فأخذوا منه ما لا يستحقون وبدأت عمليات الرشوة والمحسوبية والوساطة تنتشر بشكل وبائي داخل الجهاز الإداري للدولة، مما أدّى الى انهيار المؤسّسات العامة وتراجع العملية الإنتاجية. وبدلاً من تحقيق مكاسب داخل هذه الشركات والمصانع والمؤسّسات بدأت تحقق خسائر ضخمة كمقدّمة لاتخاذ قرارات بضرورة التخلص من ممتلكات الشعب بدلاً من التخلص من هؤلاء الفاسدين الذين يديرونها ومتخذي القرار وهم الفاسدون الكبار الذين سيشترون وسيسمسرون من وراء عمليات البيع.
وفي ظلّ هذه الأجواء انتشر الفقر بشكل غير مسبوق لدى الغالبية العظمى من المصريّين. وتحت وطأة الحاجة والفقر بدأ الفساد الصغير ينتشر بين جموع المصريين وفي كلّ ربوع الوطن، فلا مصلحة تقضي إلا بالدفع من العملات المالية فئات العشرة ثم العشرين ثم الخمسين ثم المئة ثم المئتين وتطوّرت المسألة بشكل كبير. فالموظف الشريف أصبح متسوّلاً والأكثر جرأة أصبح مبتزاً مقابل تقديم الخدمة والأكثر بيعاً لضميره أصبح مرتشياً والجميع يبرّر تسوّله وابتزازه ورشوته بعدم كفاية راتبه لسدّ رمقه وأسرته. وانتقلت العدوى لكلّ قطاعات المجتمع الكلّ يمارس الفساد بأشكاله المختلفة ومن يرفض التسوّل والابتزاز والرشوة والوساطة والمحسوبية سيُجبر يوماً على ممارساتها لأنها تحوّلت أسلوب حياة وثقافة مجتمع انهارت منظومته الأخلاقية.
لذلك لا عجب أن تتجسّد مقولة المخرج المبدع الراحل عاطف الطيب في فيلمه ضدّ الحكومة وعلى لسان بطله العبقري الراحل أحمد زكي حين وقف أمام المحكمة وقال قولته الشهيرة كلنا فاسدون حتى بالصمت العاجز المتخاذل قليل الحيلة .
وإذا كانت هذه هي حالة مصر منذ سيطرة المشروع الرأسمالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وتحاول تعميمه على وطننا العربي منذ ما يزيد عن نصف قرن، فإنّ هذا النموذج قد تمّ تعميمه على غالبية المجتمعات العربية، حيث أصبح تزاوج رأس المال والسلطة متلازماً أدّى الى أزمات اقتصادية طاحنة عجزت عن حلها هذه الحكومات الفاسدة، وأصبحت الأزمات الاقتصادية هي إحد الأدوات التي تستخدمها الولايات المتحدة الأميركية لفرض سيطرتها وهيمنتها على مجتمعاتنا العربية، وهنا يأتي السؤال: الفساد في الوطن العربي إلى أين؟!
والإجابة تؤكد أننا وبعد كلّ الهبّات والانتفاضات الجماهيرية خلال العقد الأخير لم نحقق شيئاً لأنّ معركتنا الحقيقية مع الفساد لم تبدأ بعد، وإذا أردنا أصلاحاً حقيقياً في وطننا العربي فعلينا أن نتحرك فوراً لمواجهة الفساد الكبير المتمثل في مجموعة السياسيين ورجال الأعمال الذين كوّنوا ثرواتهم بتحالفاتهم مع النظام الرأسمالي العالمي والذين يسيطرون على مقدرات الاقتصاديات الوطنية في مجتمعاتنا العربية، وعدد هؤلاء محدود للغاية. وعند بداية المعركة سيدخل الفساد المتوسط للجحور. وعندما تبدأ عمليات التنمية الحقيقية وتوزع عائداتها على الفقراء والكادحين سيختفي الفساد الصغير، وسوف تتشكل منظومة قيم جديدة معادية للفساد والفاسدين.
اللهم بلغت اللهم فاشهد.