خالد علوان… الفعل الذي غيّر وجه التاريخ
زهرة حمّود
الحديث عن المقاومة وعن انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية، يستدعي استحضار محطات أساسية غيّرت مجرى الأحداث.
المحطة الأولى هي عملية إطلاق صواريخ الكاتيوشا على المستعمرات الصهيونية في 21 تموز 1982، والثانية عملية «الويمبي» التي نفذها الشهيد البطل خالد علوان في 24 أيلول 1982.
في العملية الأولى أعلن أبطال الحزب السوري القومي الاجتماعي انطلاقة جبهة المقاومة بإسقاط شعار «سلامة الجليل» الذي أطلقه العدو الصهيوني عنواناً لاجتياحه الثاني للبنان، والثانية شكلت فاتحة تحرير بيروت من الاحتلال.
يوم اجتاح العدو الصهيوني ما يزيد عن ثلثي مساحة لبنان في حزيران من العام 1982، كان هدفه المعلن إبعاد صواريخ المقاومة عن المستعمرات الصهيونية في شمال فلسطين المحتلة لتأمين «سلامة الجليل». لكن العدو واصل اجتياحه حتى العاصمة بيروت. ومؤخراً كشف هذا العدو الصهيوني عن أنّ مخطط اجتياح لبنان واحتلال عاصمته، الذي أعدّه وزير الحرب الارهابي أرييل شارون قبل عدة سنوات من تنفيذه، كان هدفه تحقيق «التدمير الجسدي الذي ينطوي على أبعاد تتجاوز توفير الهدوء لشمال الجليل».
وفي تقرير أعدّه الصهيونيان مينتس وكالمر، فإنّ «خطة الصنوبر»، التي أطلق عليها في ما بعد «عملية سلامة الجليل»، عرضت على حكومة العدو للمرة الأولى في 20 كانون الأول من العام 1981، وجاء في التقرير: «من المناسب الانتباه إلى نقطتين أساسيتين، شارون لا يؤكد ولا يبرز الإشكالية المعروفة له، بشأن محاربة الفدائيين، في العمق اللبناني وصولاً إلى بيروت وهو يرى علاقة بين كلّ الأهداف، بحيث أنّ تحقيق الهدف الثالث، وهو انسحاب القوات السورية، سيتيح تحقيق الهدف الرابع، أيّ تشكيل حكومة في لبنان توقع معاهدة سلام مع إسرائيل».
في حسابات العدو لم يكن لبنان مدرجاً في قائمة دول المواجهة، فهو بحسب اعتقادهم كيان ضعيف، يمكن «احتلاله بفرقة عسكرية موسيقية»، مقتنعين بشعار رفعه حلفاؤهم من اللبنانيين يقول «إنّ قوة لبنان في ضعفه».
الاجتياح الصهيوني للبنان واحتلال العاصمة بيروت استفزّ النفوس الطافحة بالعز، والمتسلّحة بعقيدة تساوي وجودها، هي تقرأ في كتاب رجل حدّد أعداء الأمة منذ عشرينيات القرن الماضي، فقد أعلن أنطون سعاده أنّ الحركة الصهيونية تطمح لاحتلال فلسطين في جنوب سورية، ويوم بدأ بوضع خطته النظامية الدقيقة لمواجهة هذه الحركة، أكد من جديد أن «ليس لنا من عدو يقاتلنا في حقنا وأرضنا وديننا إلا اليهود»، وكلّ من آمن بفكر هذا المعلّم، آمن بهذا العداء، وبحتمية المواجهة مع اليهود، وكان للقوميين الاجتماعيين شرف القتال ضد الاحتلال اليهودي على أرض فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي.
إسقاط «سلامة الجليل»…
«عملية سلامة الجليل»، التي شاءها الإرهابي شارون عنواناً لاجتياح لبنان، سقطت بفعل مقاوميْن من الحزب السوري القومي الاجتماعي استهدفا المستعمرات الصهيونية بالعديد من الصواريخ، وردّ العدو، يومها، بقصف مخيم تدريب للحزب في منطقة بوارج.
كانت هذه العملية هي الانطلاقة الفعلية لجبهة المقاومة الوطنية، وعلامة فارقة في تاريخ الصراع مع العدو، لها دلالاتها الكبرى إنْ لجهة التسمية أو لجهة الهدف، فأبناء الحياة تعلّموا فنّ المواجهة بالمصطلح والرصاصة، المقاومة ثقافتهم، شاءها العدو «سلامة» للمستعمرات، وشئناها دفاعاً عن وجودنا، فلا سلامة للمحتلّ اليهودي على حساب حقنا وأرضنا.
لعلّ العدو، في بداية الاجتياح، لم يدرك أنه باستكمال مخططه العدواني الإرهابي على الأراضي اللبنانية، لن تسعفه كلّ الفرق الموسيقية العسكرية في العالم، وها هو يسمع عزف الرصاص والعبوات والصواريخ، تنطلق من مختلف المناطق، في الصرفند والعاقبية وصيدا، في عاليه وقبر شمون والشوف، في العرقوب والبقاع وصولاً إلى غاليري سمعان، وبالرغم من كلّ ذلك استكمل زحفه باتجاه العاصمة اللبنانية وتابع اعتداءه، بحشود مضاعفة وبمساعدة الكثير من أعوانه العملاء. فقد «زجّت إسرائيل في هذه الحرب ضعف عدد القوات التي واجهت بها مصر وسورية عام 1973».
بعد حصار طويل شارك فيه حلفاء العدو، دخل الصهاينة مدينة بيروت، وأهل المدن في نظر عالِم الاجتماع ابن خلدون: «ركَنوا للدّعة وحياة الترف واطمأنوا إلى ما عندهم من أموال ورزق، ألقوا السلاح وتوالت الأجيال على عدم حمله حتى تنزّلوا منزلة النساء والوالدين الذين هم عالة على أبيهم وصار هذا خلقاً لهم».
«الإنسان ـ المجتمع»
أما باعث النهضة القومية الاجتماعية أنطون سعاده، فلم يفرّق بين أبناء المدن وأبناء القرى، بل ميّز بين الإنسان الأناني والإنسان ـ المجتمع الذي يؤمن بأنّ كلّ ما فيه للأمة حتى الدماء التي تجري في عروقه ليست له، بل هي وديعة الأمة فيه متى طلبتها وجدتها.
هكذا آمن خالد علوان ورفقاؤه السائرون على نهج سعاده. وخالد هو ابن منطقة الطريق الجديدة في بيروت، المتداخلة مع مخيمي صبرا وشاتيلا، وكان هذا الشاب الأسمر الحادّ البصر والبصيرة، بالرغم من سماكة نظارتيه، يتجوّل في رأس بيروت باحثاً عن عميل يجب اعتقاله أو القضاء عليه، وأثناء مروره في شارع الحمراء صعقه منظر عدد من جنود الاحتلال الجالسين في مقهى «الويمبي» يحتسون القهوة، فوق مقاعد طالما شغلها المثقفون والفنانون والشعراء.
في لحظة كأنها البرق الخاطف استعاد خالد ما تعلّمه، في مدرسة النهضة، وذهب يبحث عن سلاح، وأمام ناظريه مشهد آلاف الأطفال والنساء والعجّز الذين روت دماؤهم أرض مخيمي صبرا وشاتيلا، وتصمّ أذنيه أصوات الغارات الوحشية المتتالية التي كانت تشنّ على المدينة ومحيطها قبل أيام، عاد مسلحاً بمسدس أفرغه في رؤوس المحتلين الصهاينة ومن مسافة قريبة، ولحظة عجز الرصاص عن الخروج من الفوهة عاجل أحدهم بقبضة المسدس، ووسط ذهول الناس المتواجدين في المقهى والشارع مضى خالد في طريقه لمتابعة مهمته الأساس، بينما سقط الصهاينة قتلى.
هذه العملية سجلت العلامة الفارقة الثانية في تاريخ المقاومة، يقول الناس إنّ خالداً بطل قوميّ، نعم هو كذلك فقد تلقى الأوامر بتنفيذ تلك العملية البطولية لحظة رفع يمينه وأقسم بشرفه وحقيقته ومعتقده أن ينتمي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي بكلّ إخلاص وكلّ عزيمة صادقة وأن يتخذ مبادئه إيمانًا له.
خالد علوان واحد من جنود الوطن والأمة، نفذ مهمة غيّرت قولاً وفعلاً وجه التاريخ، فالعدو الصهيوني كان مرتاحاً على وضعه، مطمئناً لحلفائه مستخفاً بأبناء هذه الأمة، لكنه بعد هذه العملية أضطر أن يصرخ بمكبرات الصوت «يا أهل بيروت لا تطلقوا النار إننا راحلون». لو قيّض لابن خلدون أن يسمع ذلك لتأكد أنّ نظريته في علم الاجتماع لا تصلح لكلّ مكان وزمان، خلافاً لما هي عليه نظرية الإنسان ـ المجتمع.
لم يكن خالد يوماً مستخفاً بالحياة وهو من أبنائها، لكنه كان قومياً اجتماعياً واعياً حتى النخاع، قليلاً ما سمعناه يتكلم، كان الصمت ملاذه حتى عن الألم، لكن فعله على الأرض كان أبلغ من كلّ الكلام، لقد لقّن أعتى قوة عسكرية في المنطقة درساً لا تنساه، وخط ببطولته المؤمنة المؤيدة بصحة العقيدة كتاباً في فن المقاومة ومباغتة العدو، ونفذ عمليته ضدّه بكلّ بساطة وجسارة، فهو لم يضع عبوة ناسفة، ولم يطلق صاروخاً من بعيد، بل واجه جنود العدو وجهاً لوجه، شقّ الطريق السويّ للتوقف عن التغنّي بـ«الجيش الذي لا يُقهر»، فقد قهره وأرغمه مع قلة من المقاومين على الفرار من عاصمة لبنان، وكانت هذه العملية فاتحة تحرير بيروت والمسار الذي أوصل إلى التحرير في العام 2000.
تحرير بيروت… ولبنان
عملية الويمبي في 24 أيلول 1982 شكلت امتداداً لعملية إطلاق صواريخ الكاتيوشا على المستعمرات الصهيونية في الجليل من سوق الخان في حاصبيا في 21 تموز 1982، وكانت تلك الصواريخ الانطلاقة العملية لجبهة المقاومة، وعملية «الويمبي» الانطلاقة المباشرة لتحرير بيروت، وبالتالي إفشال كلّ أهداف العدوان التي رسمها الجنرالات الصهاينة وعلى رأسهم الإرهابي شارون، ولم تأت حسابات حقلهم مطابقة لحساب بيدرنا.
لقد اندحر إرهابيّو العالم هؤلاء للمرة الأولى عن أرض سوريةٍ احتلّوها، وتفجّرت في وجههم انتفاضة أولى وثانية في الضفة والقطاع، وانتشرت على مدى أرض فلسطين، التي حاورهم أهلها بلغة المواجهة حتى باللحم الحيّ، وعمّت ثقافة المقاومة فلسطين وكلّ كيانات الأمة. كما سقط اتفاق 17 أيار الخياني وسقط الحلم بأن يكون في لبنان حكومة تابعة للعدو، بل على العكس أصبحت أرض لبنان مقبرة للجنود الصهاينة الذين باتت ترتعد فرائصهم حتى من صخور لبنان وأشجاره.
لقد تحوّلت ثقافة تمجيد قوة العدو عبر الخبر والنكات إلى ثقافة السخرية منه حتى في أوساط مستوطنيه، وسقطت تلك «الثقة المريضة» بتصديق كلّ ما يقوله، بل بات هو الكاذب، وباتت المقاومة هي مصدر الثقة.
إنّ موكب الشهداء الذي انطلق منذ تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وصولاً إلى خالد علوان ورفقائه، يتابع المسيرة اليوم، في مواجهة هذا الإرهابي وأدواته حتى تحقيق الانتصار الكبير الذي وعدنا به معلّمنا، ورسم خالد كما كلّ الشهداء بداية معالمه بالدماء الزكية الطاهرة، فقد استمدّ أبطال النهضة قوّتهم من حقيقتهم ومن ثقتهم بأنفسهم، التي شدّد عليها الزعيم أنطون سعاده، فراحوا يتسابقون إلى موت من أجل الحياة، وتفجّرت فيهم مقاومة كُتب عنها الكثير بحبر الدم الزاكي، وها هم يعبرون جسر الحياة خفافاً، مستخفين بالموت، محاربين أشدّاء في كلّ ناحية من أنحاء الأمة تتطلب وجودهم، وها هي بطولاتهم على بطاح الشام ومرتفعاتها تدحر الصهاينة وأتباعهم من الإرهابيين الذين زايدوا على مشغّليهم في ارتكاب المجازر وممارسة إرهاب لم يشهده تاريخ الإنسانية من قبل.
عملية «الويمبي» ومنفذها الشهيد البطل خالد علوان، محطة غيّرت مجرى الأحداث، كما سابقتها عملية إطلاق الصواريخ على المستعمرات الصهيونية.
هذه هي جبهة المقاومة الوطنية، انطلاقة ومسيرة، والعبرة ليست في استذكار المحطات النضالية المشرّفة والمشرقة وحسب، بل في الاستمرار على نهج المقاومة وتبني خيارها… فبهذه الإرادة تمّ إنجاز التحرير في العام 2000، وتحقق النصر في حرب تموز 2006، والصمود في العام 2008، وبهذه الإرادة المصمّمة يواصل المقاومون والقوميون الاجتماعيون مقاومتهم ضدّ الإرهاب والتطرف على أرض الشام، حتى بلوغ النصر الذي لا مفرّ منه.