حتى يتمكن الجيش من مواجهة الإرهاب بفعالية يجب…
العميد د. أمين محمد حطيط
قد يكون من المريح أن يتبارى معظم المسؤولين اللبنانين في الدعوة إلى تعزيز الجيش اللبناني ومدّه بأسباب القوة ليتمكن من الدفاع عن لبنان وحفظ أمنه ونظامه وقطع الطريق على تشكل أي ظرف وسبب يحمل اللبنانيين على الاضطرار للدفاع عن أنفسهم بأنفسهم وقيام ما يسميه الخبثاء أمناً ذاتياً، ولكن من المخزي المثير للدهشة والاستهجان أن نجد أكثرية الداعين إلى تعزيز الجيش وتسليحه يتصدرون صفوف المعارضين لتنفيذ ما ينادون به، وإذا تولوا مسؤولية ما، أظهروا شراسة في مناهضة الجيش أو إعطائه شيئاً من حاجاته الملائمة للمهمات المنوطة به.
وللتوضيح وتسمية الأشياء بأسمائها، فإننا نذكّر بأن العهد الأسوأ الذي شهده الجيش اللبناني منذ تأسيسه عام 1945، هو العهد الذي آلت مالية الدولة فيه إلى تيار المستقبل الحريري منذ خريف عام 1992، إذ بدأت رحلة التضييق المالي على الجيش في شتى القطاعات التي تستلزم مالاً، سواء في مجال التسليح والذخائر أو في المجال المعيشي واللوجيستي والإداري للعسكريين، ولو لم يكن هناك ظرف خاص ناشئ عن العلاقات الخاصة بين الجيشين السوري واللبناني، لما تمكن الثاني من امتلاك التجهيزات والأسلحة والذخائر بحدّ معقول يساعده في تنفيذ مهماته، فقد فتحت المخازن السورية أمام الجيش اللبناني الذي كان قيد التجميع وإعادة التنظيم لتجهيزه بما يتوفر. ومن غريب المفارقات اليوم والمثير للدهشة، أن تيار المستقبل ذاته يرفض أي نوع من أنواع التنسيق بين الجيشين حتى في ما يساعد الجيش اللبناني في مهماته
في مواجهة الخطر الإرهابي الذي يهدد لبنان، في سلوك يشكل استمراراً لسلسة المواقف والسلوكيات التي مارسها هذا التيار في السنوات الأربع الأخيرة من عمر الحريق العربي عموماً والعدوان على سورية خصوصاً. وهنا لا ضير في أن نذكر بعض المحطات من هذه السلوكيات كالتالي:
في مطلع العدوان على سورية أنشأ تيار المستقبل غرفة عمليات لوجستية في تركيا أوكل أمرها إلى نائب من كتلته، وأناط بها توريد الأسلحة والذخائر إلى الإرهابيين في سورية، ولم نسمع من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة يومها أي موقف معترض أو أي اتهام بالخروج على سياسة النأي بالنفس التي تغنّى بها هذا الثنائي.
حول تيار المستقبل ميناء طرابلس إلى ميناء للإرهابيين، مستبيحاً أمن المدينة عبر عشرين جولة من القتال العبثي، حيث كان الوضع ينفجر في جولة جديدة في كل مرة تصل إلى المرفأ باخرة تحمل السلاح والذخائر للإرهابيين في سورية، وكان الجيش المقيّد بالقرار السياسي الخاضع لتيار المستقبل ينزف شهداء وجرحى في كل جولة، ولا من يحاسب.
حول تيار المستقبل ومعه جماعات ما يسمى 14 آذار عكار وعرسال إضافة إلى طرابلس إلى قواعد تحشد وإمداد لوجيستي للإرهابيين، ولما حاول الجيش في مطلع عام 2012 وضع يده على الارض تمت مهاجمته إلى درجة وصلت الوقاحة بأحد نواب تيار المستقبل إلى دعوة الجيش للاستحصال على إذن أو ترخيص من رئيس بلدية أي قرية في عكار إذا رغب في اجتياز قريته، ثم أُتبِع الموقف باعتداء على الجيش على حاجز الكويخات وبدلاً من ملاحقة المعتدين أوقف الضباط لأنهم مارسوا حق الدفاع المشروع عن النفس وأطلقوا النار على من اعتدى عليهم.
قتل الرائد بشعلاني في عرسال مع رتيب من الجيش، على يد الإرهابيين وهو ينفذ مهمة أمنية رسمية، وبدلاً من أن يعطى الجيش أمراً بالتصرف وفقاً للقواعد العسكرية في حالات مماثلة، كان القرار السياسي معاكساً للمنطق، وذهب وفد 14 آذار إلى عرسال ليتضامن مع القتلة وذهبت دماء شهداء الجيش هدراً.
بضغط من تيار المستقبل على الثنائي الرئاسي الجمهورية والحكومة طلب إلى قيادة الجيش أن تنشر العسكريين في محيط عرسال بشكل «يطمئن الأهالي ولا يشكّل استفزازاً لهم»، والعبارة تعني شيئاً غير ظاهرها، وكانت تلك الأوامر أغرب ما يمكن أن يصدر للجيش من أوامر، وهنا كانت بذور الكارثة التي وقعت في مطلع آب 2014، إذ التهم الإرهابيون المراكز العسكرية «المنتشرة للطمأنينة» فقتل من قتل وأُسر من أُسر وضاعت الدولة وهيبتها في عرسال.
إثر طعنة عرسال، قام الجيش برد فعل طبيعي ونفذ عملية عسكرية في محيط البلدة، وتمكن من استعادة معظم مراكزه وانطلق لتنفيذ الحصار المحكم حول عرسال فتصدى له تيار المستقبل وتمكن من ثنيه عن المهمة عبر السلطة التي يتولى زمامها في حكومة ما يسمى المصلحة الوطنية، منادياً بالحل السياسي الذي تسبب بفك الحصار وتمكين المسلحين من السيطرة على عرسال والتنقل الحر إليها ومنها إلى جرودها والاحتفاظ بـ 38 عسكرياً لبنانياً مخطوفاً.
بعد كل هذا يريدنا البعض أن نصدق بأن تيار المستقبل وتابعيه يريدون الجيش القوي الذي يمسك بالأرض وقرارها ويمنع أي شكل من أشكال الأمن الذاتي، ويتصرفون وكأن الناس فقدت ذاكرتها ونسيت أنهم بممارساتهم من 22 سنة كان همهم محاصرة الجيش وتجفيف مصادر قوته وتغيير عقيدته القتالية، وتحويله من جيش للوطن يواجه «إسرائيل» وكل عدو للبنان إلى قوات حفظ أمن تعمل بأوامرهم كأداة قمعية تكمّ أفواه معارضيهم، ثم يتبارى من يدور في فلكهم من مسؤولين حاليين وسابقيين في إطلاق مبادرات تسليح الجيش وتعزيزه، ويتصرفون وكأن النسيان طمس ذاكرة اللبنانيين وأخرج منها شنيع أفعالهم في تقييد الجيش وتحجيمه وحرمانه مما يحتاج في مهماته.
في المقابل، نذكر أننا طالبنا منذ 3 سنوات بإعلان منطقة شمال خط عرسال ـ طرابلس منطقة عسكرية وتكليف الجيش بحفظ الأمن فيها فرفضوا، وطالبنا بتعزيز الجيش بالعديد عن طريق العودة إلى تطبيق خدمة العلم وفتح باب التطويع فرفضوا، وطالبنا بقبول الهبة العينية الروسية والإيرانية من السلاح والذخائر فأحجموا تحت وطأة الضغوط الأميركية والسعودية، وطالبنا بإصدار قوانين برامج لتسليح الجيش على مدار 3 سنوات بـ 4 مليارات دولار، ولم نجد إلا الرفض والتهرب من إعطاء الجيش شيئاً.
ومع هذه اللوحات المتناقضة للمشهد يعود هؤلاء لإرهاق اللبنانيين بوعود خلّبية وهمية بمليارت لا يصل منها شيء إلى الجيش، وإن خرجت من خزائن المانح فإنها كما يبدو تدخل جيوباً بعيدة من المخازن العسكرية، ثم يدعون إلى طلب الاحتياط، ونسأل أي احتياط يدعى ممن لامسوا الـ 55 سنة؟ ثم بأيّ سلاح يحارب الاحتياط؟
إن أمن لبنان بحاجة إلى عمل جدي صادق بعيد من الاستعراض الإعلامي والتجارة السياسية، عمل يكون وفقاً لخطة متكاملة تؤدي إلى تعزيز الجيش وتمكينه من التصرف وفقاً للقواعد العسكرية التي يفرضها الظرف الاستثنائي الراهن على أن تشمل ما يلي:
قرار سياسي بتكليف الجيش بحفظ الأمن وإعلان حالة الطوارئ وإنشاء المناطق العسكرية كلياً أو جزئياً في المناطق المعرضة للتهديد، ورفع يد السياسيين عن الجيش واعتباره وحده مسؤولاً عن العمل والنتائج.
تعزيز عديد الجيش بشكل فوري ومتدرج بحيث يرفع عديده خلال سنتين بمعدل 20 ألف احتياطي ومتطوع ومجند مع العودة إلى قانون خدمة العلم، وهنا يمكن استيعاب 10 آلاف سنوياً بمعدل الثلث من كل فئة من العسكريين.
تجيهز الجيش من الخزينة العامة وشراء السلاح من الأسواق التي تفتح أبوابها له بشكل غير مشروط، وقبول الهبات العينية غير المشروطة من السلاح والذخائر خصوصاً من الدول التي عرضت ذلك إيران وروسيا ، وطرق باب الصين التي أبدت استعداداً أيضاً.
إنشاء الحرس الوطني أو العودة إلى أنصار الجيش وتنظيمهم بإشراف الجيش وتسليحهم وتدريبهم لتأمين الحراسات المحلية في القرى والبلدات والأحياء.
التنسيق المباشر مع المقاومة في لبنان والجيش العربي السوري عبر الحدود، مع التذكير بأن لا شيء اليوم اسمه أمن وطني مستقل ولا يمكن تحقيق ذلك إلا في إطار أمن إقليمي متكامل، ومن يدعو إلى حياد أو نأي بالنفس عمّا يجري في الإقليم فإنه أحد اثنين إما أحمق لا يفقه في الأمن أو مرتبط بأصحاب المشروع الاستعماري الذي يستهدف أمن المنطقة ويريد التجزئة الأمنية حتى يسهل تمرير المشروع.
نطرح هذه الخطة ليكون الجيش مالكاً للقوة التي تسبغ عليه الهيبة وتمنحه قوة الردع، عندها لا نكون مضطرين للتفاوض مع أحد من أجل إطلاق مخطوف أو رهينة، بل يتصرف الجيش في وجه الإرهابيين كما تصرف في بريتال وأنقذ اللبناني المدني المخطوف، فيطلق مخطوفيه العسكريين.
لكننا نشك في أن يقبلها تيار المستقبل ومن في فلكه لأن سادتهم في الخارج لا يريدون أن ينجح الجيش في مواجهة الإرهاب الذي اتخذوه أداة للعدوان على سورية، وهم منضوون في محور العدوان هذا، ولا يريدون حسم معركة عرسال ولا يريدون إقفال بوابة الشر اللبنانية ضد سورية ولا يردون أمناً حقيقياً في لبنان، لأن غايتهم إشغال المقاومة بنار في الداخل تسمح لـ«إسرائيل» بأن تنتقم منها كما يتصورون، أما ما يعدون به أو يطلقونه من مبادرات لتعزيز الجيش، فما هو إلا مناورات استعراضية لإخفاء حقيقة مواقفهم المؤذية للجيش ولبنان ومنع المساعي الجدية التي تعززه، ولهذا يكون على المعنيين الحقيقيين بأمن لبنان أن يشمّروا عن سواعدهم ويتكلوا على قدراتهم.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية