روسيا ليست في طور الانكفاء عن سورية
إبراهيم علوش
زعم تقرير وضعه ثلاثة باحثين يوم الجمعة الفائت على موقع معهد دراسات الأمن القومي «الإسرائيلي»، بينهم اثنان من كبار قيادات الاستخبارات العسكرية، أن روسيا تمارس ضغوطاً مضادة على الغرب لتخفيف الضغط السياسي والاقتصادي عليها إثر أزمة أوكرانيا، بشكلٍ موازٍ لإيقاعات التصعيد والتهدئة في سورية. تحت عنوان «وقف إطلاق النار في سورية: ما خلف الكواليس والآثار الراهنة»، يرى التقرير بأن موسكو باتت تروّج للحوار السياسي في سورية بعد تمتّعها باليد العليا في الميدان العسكري مما يمكنها من إملاء حصيلة العملية السياسية. ويتهم التقرير روسيا بإحداث أزمة لاجئين في الهجوم على ريف حلب خلال مؤتمر «جنيف ثلاثة»، في نهاية كانون الثاني وبداية شباط الفائت، للضغط على تركيا والدول الأوروبية.
يقوم مثل هذا الربط بين السياسة الروسية في سورية، والحاجة لمواجهة ردّة فعل حلف الناتو على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، من جهةٍ أخرى، بحسب كتاب معهد دراسات الأمن القومي «الإسرائيلي» على خطوات ولقاءات روسية مع مسؤولين غربيين مؤخراً، منها:
اللقاء بين فلاديسلاف سيركوف، المستشار الشخصي لفلاديمير بوتين، مع فيكتوريا نولند، نائب وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأوروبية والأوراسية، والذي يفترض أنه تناول تخفيف الضغط الاقتصادي على روسيا وتضييق الفجوة بينها وبين الولايات المتحدة.
المفاوضات بين روسيا والولايات المتحدة خلال مؤتمر ميونيخ الأمني شباط الفائت، التي تركزت على وقف إطلاق النار في سورية وتخفيف الضغط الدولي على روسيا.
محادثات ديمتري مدفيديف، رئيس وزراء روسيا، مع عدد من الزعماء الأوروبيين، بهدف إنهاء الضغط الاقتصادي والسياسي على روسيا.
استمرار تلك المحادثات بعد اختتام مؤتمر ميونيخ، في ما وصفه الكرملين بأنه «محادثات ثنائية مغلقة»، لمدة أسبوع، وصولاً لمكالمة هاتفية بين بوتين وأوباما تناولت القضايا الخلافية بين البلدين.
لم تُسرّب معلومات، وليس من الواضح بعد، بحسب التقرير، إن كانت هذه المحادثات قد أثمرت عن تخفيف الضغط الاقتصادي والسياسي الغربي على روسيا، مع قيام الطرفين بمناورات عسكرية ضخمة والإعلان عن تحشيد عسكري للناتو في أوروبا. أما تحريك العملية السياسية، بعد فرض وقف إطلاق نار بالشروط الروسية، فيمثل المرحلة الثانية من التدخل الروسي في سورية، وقد وافقت عليها الولايات المتحدة لإيقاف زخم التقدم الميداني للجيش العربي السوري وحلفائه فقط، ولإيقاف تدفق اللاجئين إلى أوروبا، ولأنها لا تمتلك استراتيجية بديلة بالنظر لعدم استعدادها، و «عجز الدول العربية السنية»، بحسب التقرير، عن إرسال قوات برية إلى سورية.
ويختتم التقرير بأن وقف إطلاق النار قد تكون له آثار سلبية على «إسرائيل»، لأن الوضع المتشكل على الأرض يقوّي «الائتلاف المؤيد للأسد والهيمنة الإيرانية»، ويجعل من الصعب على الكيان الصهيوني أن ينفّذ ضربات جوية تخرق وقف إطلاق النار وربما تتسبب باحتكاكات مع روسيا، كما أن الكيان الصهيوني، بحسب التقرير، ليس من مصلحته بتاتاً أن يرتاح حزب الله من القتال في سورية.
تبرِز الرؤيا الصهيونية أعلاه ملامح استراتيجية عدة لعل أهمها الترابط بين اندفاعة روسيا في سورية، من جهة، وصراعها الجغرافي – السياسي مع حلف الناتو عبر القوس الممتد من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، ناهيك عن الصراع في الحلبتين الاقتصادية والدولية، من جهةٍ أخرى. فإذا فهمنا الدخول العسكري الروسي المباشر كهجوم استراتيجي مضاد جنوب البحر الأسود، فإنه يصبح من الواضح أن روسيا لن تفرط بسورية، ولن تكفّ فجأة عن اندفاعتها سورياً وهي تمتلك اليد العليا في الميدان لتسلّمه لحلف الناتو ولمخلبه التركي، أو للأنظمة البترودولارية التي أسهمت بتخفيض أسعار النفط العالمية.
الإعلان عن انسحاب القوات الروسية من سورية إذن لا يعني كثيراً من الناحية الميدانية، ما دامت قاعدتا طرطوس وحميميم قائمتين، والمظلة الجوية الروسية في موضعها، فالمشاركة العسكرية الروسية في سورية لم تكن برية أصلاً، بل جوية، والإنجازات الميدانية كانت وستبقى إنجازات الجيش العربي السوري والقوى الرديفة والحليفة، ولذلك فإن الإعلان الروسي يأتي في سياق جنيف لمساعدة الدول الراعية للعصابات المهزومة على حفظ ماء وجهها، مما قد يساعد على إنجاح الحوار السياسي، ويعكس ثقة موسكو ودمشق بقدرة الأخيرة على الإمساك بالوضع، فهو أقرب لمناورة منه لانسحاب سياسي، وكما عنون موقع «روسيا اليوم» بالإنكليزية الخبر: «انسحاب روسيا المفاجئ وغير المتوقع من سورية يُرحَّب به كمؤشر لعملية سلام حقيقية»!
يتزايد التوتر، من جهة أخرى، بين الناتو وروسيا، وثمة حملة مسعورة حالياً لزيادة موازنة القوات الأميركية في أوروبا إلى أربعة أضعاف حجمها العام الماضي، أما زعم استخدام أزمة اللاجئين ضد أوروبا، فجاء رسمياً على لسان الجنرال فيليب بريدلوف، قائد قوات حلف الأطلسي في أوروبا، في سياق تصريحات له أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي بداية شهر آذار الحالي، أي أنه وظف أزمة اللاجئين لمطالبة مجلس الشيوخ بإقرار زيادة موازنة القوات الأميركية في أوروبا أربعة أضعاف، متجاهلاً سعي الزعماء الأوروبيين لرشوة أردوغان كي يوقف تهريب اللاجئين لأوروبا، وأن أزمة اللاجئين هي نتاج فرعي للأزمة السورية التي نتجت بشكل مباشر عن دعم العصابات المسلحة من قبل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وتركيا والأنظمة البترودولارية العربية.
الصراع مع روسيا يتأجّج ولا يخبو، وقد حذرت مجلة نيوزويك في 12 كانون الثاني الفائت من غزو روسي لدول البلطيق، وجاء لقاء فيكتوريا نولند مع مستشار بوتين الشخصي خلال جولتها في تلك الدول بعدها بأيام فحسب، لتعزيزها في مواجهة روسيا، وقد بدأ ديمتري مدفيديف خطابه في مؤتمر ميونيخ في أواسط شباط الفائت كما يلي: «الحرب الباردة الأولى انتهت قبل 25 عاماً»، ثم أضاف في المتن: «لأقولها بصراحة، إننا ننحدر نحو فترة حرب باردة جديدة»!