إبداع الطاقات اللبنانية… هو صورة الوطن الحقيقية
د. سلوى خليل الأمين
علّمونا في الكتب أنّ لبنان موطن الحرف والإشعاع والنور، وأن مواطنيه طالما حملوا الإبداع رسالة حضارة تنويرية، فكان منهم عباقرة تجلوا في متاهات الفكر والفلسفة والشعر والأدب والتاريخ، كما برعوا في السياسة التي جابهوا من خلالها المستعمر الفرنسي، الذي جلا عن هذا الوطن بعد تظاهرات شعبية واعتقالات لرجال السياسة الذين ناضلوا متعاضدين من أجل الاستقلال والحرية وامتلاك الوطن سيادته كباقي الأوطان.
لهذا وحدت الكلمة مسارهم ومسيرتهم عبر العصور، فحملوا شعلة الإبداع ضياء مسارات لوّنت العصور العربية المتقلّبة بنتاج عقولهم التي فاضت عبقرية، عمّت الوطن وعالم الانتشار بهالة من نور وارتقاء وتطوّر، مجّدها الشعراء بقصائدهم والكتّاب بنصوصهم والسياسيّون بمواقفهم الوطنية التي أنتجت الاستقلال بعد دحر المستعمر الفرنسي. بمختصر القول، كان لكلّ دوره في معركة التحرير من نير الاستعمار ولم يكن الأمر حكراً على سياسي لامع أخذ على عاتقه تحرير وطنه دون بقية شرائح الشعب، الذين هم الأساس في كلّ تحرك سياسي مهما تنوّعت المضامين والأبعاد وأشكال التحرك الفاعل.
لكن لتاريخه ما زال في الواجهة اللبنانية رجالات السلطة فقط، كأنهم وحدهم المسؤولون عن إنتاج كرامة الوطن والمواطنة السليمة، لأنّ كلّ مواطن معنيّ بالعمل، كلّ في زاويته، من أجل الارتقاء بالوطن إلى المراتب العليا.
المؤسف أنّ وسائل الإعلام اللبنانية وخصوصاً المرئية منها أصبحت ملكية خاصة لذوي السلطة والمال، لهذا لا يهمّهم أن تتحرك في الوطن فعاليات ثقافية وحزبية علمانية ووطنية تناقض تحركاتهم العاملة على تفتيت الوطن وشرذمة أبنائه، لأنّ أفعالهم المتخمة بالفساد والإفساد تنكشف في حال صعود هذه الفئات الجهادية، التي تعمل من أجل استقرار الوطن وجمع الكلمة، المواقع المتقدّمة في الوطن. علماً أنّ بيانات أهل السلطة ومنازعاتهم وآراءهم المتشابكة أصبحت ممجوجة، لا يكترث بها إلا المتزلفون النفعيون، الذين يتقنون مهنة التصفيق وصياغة الكلام، أما المجاهدون الحقيقيون في سبيل الوطن وسيادته وحريته الحقيقة وكرامة بنيه، فهم المهمّشون الذين يصبّ عليهم الغضب ليل نهار، حتى لو كانوا من أهل السياسة الأنقياء أو من رجالات الفكر والمعرفة والثقافة والفن والموسيقى، الحاملون الحلم الوطني على مهود ضمائرهم، بدليل ما ينتجونه عبر تضحياتهم الجسام في معارك الدفاع عن الوطن ضدّ الإرهابيين التكفيريين والعدو الصهيوني المتربّص بنا، كما ضدّ الجهل والأمية المتمثلة بنشاط المجتمع الأهلي المدني ومتطوّعيه الذين يسعون بكلّ جهد لتظهير الصورة المفيدة والمشرقة للبنان، عبر إقامة المهرجانات التربوية والثقافية والفنية ومعارض الرسم والكتب والحفلات الموسيقية التي تهذب نفسية الإنسان، وتحيّد العقل عن متاهات السياسة البشعة، التي أصبحت في الدرك الأسفل في لبنان.
لهذا أخذ هؤلاء على عاتقهم الدخول في معركة حماية الوطن وتطويره، عبر رسم الصورة الإبداعية للمواطن اللبناني، الذي يملك الحق في مجابهة الباطل وإحياء معالم حضارتنا المتخمة بالنتاج الأدبي والفني والمعرفي والشعري الذي اخترق العالم كله عبر جبران خليل جبران الذي أقيمت له ساحة خاصة في العاصمة الأميركية واشنطن، وعبر الفن الرحباني، وعبر الرسامين الذين أصبحوا عالميين، وعبر كلّ مبدع لبناني في ديار الانتشار، وضع بصماته وإفرازات عقله في سبيل إنتاج الحضارة العالمية الجديدة.
لهذا قمنا كمجتمع مدني، وكمعنيين بإنارة زاوية من زوايا الوطن، حيث لكلّ منا دوره في بناء الوطن، والكلّ معنيّ بتحمّل المسؤوليات الجسام، بإطلاق: ديوان أهل القلم في العام 1999، الذي أخذ على عاتقه إظهار الصورة المشرقة للبنان، وذلك عبر تسليط الضوء على الطاقات اللبنانية المبدعة في عالم الانتشار، تلك الطاقات المجهولة من معظم الشرائح اللبنانية، علماً أنّ العديد منهم هم شركاء في بناء الحضارة العالمية الحديثة، وأهمّها علوم الفضاء حيث اختراق المجرات أصبح علماً متطوّراً جداً بوصول الإنسان إلى القمر، وبعده هبوط أول مركبة على سطح المريخ ببصمات لبنانية لابن بلدة رياق البقاعية وابن العائلة المتواضعة البروفسور شارل العشي الذي يرأس مركز JPL في الناسا الأميركية، وقد قمنا في ديوان أهل القلم باستضافته في لبنان في شهر أيار من العام 2006.
أسوق هذا الكلام كي أوضح أننا في هذا الوطن كلنا معنيون بالعمل من أجل تطويره وارتقائه وتلميع صورته أمام العالم أجمع، حيث منا من أثبت أنّ قوة لبنان ليس في ضعفه بل في مقاومة الباطل والتصدّي للعدو الصهيوني، ومنا من أثبت انه مقاوم بأفعاله التربوية والثقافية والفنية والإعلامية والوطنية التي تجمع ولا تفرّق. لهذا كان عملنا التطوّعي في «ديوان أهل القلم» مسار ربط للبنان المقيم بلبنان المغترب عبر كلّ الطاقات اللبنانية المبدعة في كلّ المجالات التي دعوناها إلى لبنان، كي يتعرّف عليها معظم اللبنانيين. وبالفعل هذا ما حدث وما زال يحدث، وهذا دورنا الهادف إلى تبيان الصورة المشرقة للبنان عبر العالم، من أجل إخفاء الصورة البشعة المتمثلة بأخبار النفايات والمشاكسات والاختلافات على موقع رئاسة الجمهورية واستخراج النفط والوقوف ضدّ الأشقاء في سورية والعراق واليمن في معركتهم النضالية، التي أرادها الغرب المستعمر سبيلاً لتفتيت هذه الأمة إرضاء للعدو الصهيوني.
وبما انّ عملنا في «ديوان أهل القلم» يتطلب حيّزاً من الاستقرار والأمن، لأنّ من نكرّمهم لهم موقعهم الوازن في الغرب من حيث تقديرهم للعلماء والحرص على أمنهم وسلامتهم، وحالياً من المستحيل السماح بمجيء أيّ منهم إلى لبنان ومنهم أكبر عالم نووي في العالم، التفتنا إلى الداخل اللبناني، خصوصاً أنّ الإبداع داخل الوطن، بالرغم من الظروف المأساوية التي يعاني منها كلّ مواطن، ما زال بخير وفي تصاعد مستمرّ، لهذا اتخذنا القرار بإطلاق مهرجان الإبداع اللبناني الأول لهذا العام 2016 وبمناسبة عيد المرأة العالمي، فاخترنا إمرأة لبنانية عربية أقامت صروحاً تربوية جامعة على جميع الأراضي اللبنانية من الشمال حتى الجنوب والبقاع إلى جانب المركز الرئيس في بيروت الذي هو الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا AUST، بحيث تمكن أبناء الطبقات الوسطى وما دون، الذين لا يتمكّنون من الدخول إلى الجامعات الأجنبية العريقة العاملة في لبنان منذ زمن بعيد من اللجوء إليها، لأنها جعلت أقساطها بمتناول الجميع وحتى الدوام اليومي أيضاً، بحيث يتمكن الطالب العامل من متابعة دراسته دون إرهاق، إلى جانب قدرتها وتميّزها في وضع أسس تعليمية وتربوية أثبتت من خلالها جدارتها كإمرأة استطاعت بمدى قصير معها اتفاقيات تمكن طلابها المتفوّقين من متابعة دراستهم في الجامعات التي عقدت معها اتفاقيات تربوية، وعددها يقارب 30 جامعة عالمية في اميركا وسويسرا وإيطاليا وفرنسا.
لهذا كله اخترناها في عيد المرأة، كي نثبت أنّ المرأة قادرة على القيام بالمعجزات، لهذا أقيم لها المهرجان التكريمي في قصر الأونيسكو في القاعة الكبرى، التي تتسع لـ1200 مقعد، ضاقت عن استيعاب الحشد الضخم من رسميين وأمنيين ورجال فكر وتربية وثقافة، أتوا من كلّ المناطق اللبنانية ومن الكويت ودبي والأردن، وقد أقيم المهرجان برعاية وزير التربية والتعليم العالي الياس بو صعب، وبمشاركة وزراء تربية سابقين هم على التوالي: الوزير خالد قباني الذي اعتلى المنبر بعد إطلاق النشيد الوطني بصوت التينور اللبناني العالمي غبريال عبد النور كي يقول: … ربما لو كنتِ وزيرة لما أصبت كلّ هذا النجاح، وامتلكت من رجاحة العقل وقوة الشخصية وحسن الأداء ووضوح الرؤية وصلابة الموقف ومن الديبلوماسية ما يجعلني كلما نظرت إليك أشعر بأنني أمام مزيج من المرأة الحديد مارغريت تاتشر في صلابتها وقوة شخصيتها وأنجيلا ميركل في حزمها ومرونتها، شكراً لـ»ديوان أهل القلم» ورئيسته الدكتورة سلوى الخليل الأمين التي عرفت كيف تظهر الصورة المشرقة للبنان العلم والنور والإبداع.
ثم تبعه الوزير بطرس حرب بالقول: شكرا لـ»ديوان أهل القلم» بشخص رئيسته الدكتورة سلوى االخليل الأمين التي سبقت الجميع في إطلاق مبادرتها الطيبة تجاهك، أنت التي استطعت باندفاعك وإيمانك إقناعي بأنّ لبنان يحتاج إلى جامعات جديدة من نوع جديد، جامعات قادرة على المساهمة في إبقاء مستوى لبنان العلمي رفيعاً وعلى مواكبة التطوّر العالمي والحاجات الطارئة. تؤهّل شبّان لبنان وصباياه من كلّ الطبقات الاجتماعية للتخصّص في مجالات واختصاصات جديدة، بحيث لا يبقى شاب أو شابة في مجتمعنا محروماً بحكم وضعه الاجتماعي والمادي.
أما النائب السيدة بهية الحريري، رئيسة لجنة التربية النيابية فقد قالت: … الشعوب التي استقرّت وتقدّمت هي تلك التي بحثت جيلاً بعد جيل عن الطريق الصحيح، طريق العلم والإبداع والمعرفة. وعندما أدركته بدأت رحلتها نحو التقدّم والاستقرار، لأنها ذهبت في الاتجاه الصحيح. فالطريق الصحيح هو اتجاه وخيار، وليس له أول ولا آخر، إنه تراكم من الإبداع والعطاء والنجاح وله مناراته ومحطاته ورموزه ولقد اهتدى «ديوان أهل القلم» إلى الطريق الصحيح في مهرجان الإبداع الأول للعام 2016، عندما اختار أولى العلامات الكبيرة على الطريق السليم وهي الأخت الصديقة والخلاقة الدكتورة هيام صقر.
أما الضيوف من خارج لبنان وهم: وزير التعليم العالي الأردني السابق الباحث الدكتور عمر شديفات فقد وصف لبنان بأنه ملتقى الحضارات وبوابة الشرق وقلب العالم العربي الذي لا يتوقف عن النبض، مما أغناه بتنوّع فكري وثقافي بحيث أضحى مصدراً للكلمة وناشراً للأبجدية الأولى منذ أن كان. ومن دواعي سروري مشاركة «ديوان أهل القلم» تكريم إحدى المبدعات النابهات المثابرات التي خرجت من هذه الأرض المباركة سعياً وراء العلم وطلباً لخدمة البشرية وأثبتت أنها من أمة متحضّرة ضربت للعالم المثل الأعلى في الحرص على طلب العلم ونشر المعرفة بين الناس إنها السيدة هيام صقر رئيسة جامعةAUST.
أما الضيف الأميركي وهو نائب رئيس جامعة فيلانوفا في فيلادلفيا USA، وهو من أصل لبناني البروفسور كويل إيليس أو «لقيس»، فقال: إنّ حماسة وشجاعة السيدة هيام صقر وانجازاتها التي لا حدود لها نحو بلدها جعلتها تؤمن بأنّ لبنان هو منارة الثقافة ومشعلها، وأصاف: من يرد أن يحظى بثقافة عالمية عليه أن يدرس في لبنان لأنه الجسر الممتدّ بين الشرق والغرب ولأنّ برامجه التعليمية هي من أرقى المستويات، وانّ عملها كان أكبر برهان على ما قاله الشاعر اللبناني جبران خليل جبران حين قال: العمل هو الحب الحقيقي، وإنجازات السيدة صقر خير دليل على الحب، والشكر لمؤسسة «ديوان أهل القلم» على أخذ المبادرة والقيام بهذا التكريم الواجب.
أما كلمة الافتتاح فكانت لرئيسة ديوان أهل القلم سلوى الخليل الأمين التي قالت: هي الدكتورة هيام صقر، السيدة اللبنانية العربية المبدعة في عطاءاتها، بل القادرة المقتدرة التي آمنت بعد تخرّجها من الجامعة الأميركية في بيروت أنّ ارتقاء الوطن وارتفاع مداميكه لا يمكن أن ترتفع سوى على مفاهيم تربوية صالحة تكرّس الانتماء الوطني، مواطنة حقيقية لا لبس فيها، تكون هي الهدف والمرتجى في زمن الشحّ السياسي والاقتصادي والإنمائي، حيث منائر التربية هي بوابة الزمن المندى بالإخلاص والصبر والنشاط والعمل الدؤوب الذي رفعته الدكتورة هيام صقر في مؤسستها التربوية ممالك زهر متوّجة بعبق العطاء والإبداع
وكانت الكلمة الأخيرة للمحتفى بها الدكتورة هيام صقر، بعد تقديم دروع التكريم من «ديوان أهل القلم» ووسام الخارجية البلغاري الذي يعطى لشخصيات عالمية ويمنح لأول مرة لشخصية عربية قدّمه السفير البلغاري في لبنان، حيث قالت بعد تقديمها الشكر لـ»ديوان أهل القلم» وللخطباء ولكلّ من شارك في الحضور وخصوصاً من البلدات الجنوبية والبقاعية والشمالية، وعلى وجه الخصوص من بلدة عين إبل الجنوبية مسقط رأس الزوج فؤاد صقر الذي كان مديراً سابقاً في شركة طيران TMA اللبنانية، وقد حيّته قائلة: مع الغالي فؤاد، زوجاً ورفيقاً وأباً حانياً وموجّهاً حكيماً أسّسنا عائلتين: أولى صغيرة حبانا إياها الله خمسة أولاد هم اليوم طليعة العمل التربوي، وعائلة كبرى ما زالت تكبر عاماً بعد عام كي تشكل خرّيجين يكبر بهم المجتمع اليوم دعامة لتطوّره ويحتاج إليهم غداً قادة جدداً إلى مستقبل زاهر. فأنا منذ بداياتي تكرّست للتربية رسالة ونهجاً، فأنا اليوم في الثمانين، ولكن قلبي ينبض في العشرين: إرادة وطموحاً وحباً للحياة والعطاء وسفراً متواصلاً لتأمين آفاق جديدة تخدم الجامعة وطلابها ومستقبلها المضيء. فشكراً للصديقة سلوى الخليل الأمين التي أخرجتني عن صمتي وهي الناشطة المتميّزة في الحقل الثقافي.
ولم يخل الاحتفال من العزف الموسيقي الرائع الذي قدّمه الموسيقار اللبناني العالمي الياس الرحباني… مع عرض فيلم وثائقي عن المحتفى بها.
لقد تعمّدت في مقالتي الأسبوعية في «البناء» أن أسلط الضوء على هذه الصورة المشرقة التي يحفل بها لبنان، وقمنا بها في «ديوان أهل القلم» كما غيرنا من الجمعيات المدنية تطوّعاً من أجل مقاومة أيّ التباس يضع لبنان على دروب الانهيار… فلبنان باق ما دامت الفوارس في أماكنها صامدة ومتصدّية لكلّ خرق أمني أو ثقافي أو تربوي أو فكري أو معرفي… لهذا المطلوب من الجميع إظهار ما تقوم به هذه المنتديات والجمعيات عبر جعلها في الصفحات الأولى من الصحف اليومية، بدلاً من مشاكل النفايات والفساد وغيرها من يوميات الحياة السياسية التي تشوّه وجه لبنان الحضاري. وهذا من أهمّ واجبات وزارة الإعلام التي عليها أن توجّه الإعلام إلى الخط الصحيح الذي يظهر الصورة المشرقة بل الحقيقية للبنان.
رئيسة ديوان أهل القلم