صنافير وتيران… وحديث العتبة الخضراء
بشير العدل
بعد متابعة شبه مستمرة للجدل الدائر حول جزيرتَي صنافير وتيران، وإطلاع متواصل على الحقائق التاريخية، وبحث في الكتب والمذكرات الوثائقية، ومحاولات مضنية للتعرّف على المواقف السياسية عبر عقود من الزمن، خلصتُ إلى نتيجة واحدة وهي أنّ الحديث عن الجزيرتَين سواء في وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي، أشبه ما يكون بالأحاديث الكوميدية التي جسّدها المشخصاتي الراحل اسماعيل ياسين، طيب الله ثراه، في أحد أفلامه التي تمّ فيها الحديث عن بيع العتبة الخضراء، ليكشف في النهاية عن حسن النوايا دون الوعي الكافي.
فما أن تمّ الحديث خلال الزيارة التي قام بها الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى مصر، عن فكرة إنشاء جسر بري بين المملكة ومصر، حتى بادرت وسائل إعلام خاصة، إلى اختزال الفكرة في أنها بيع أجزاء من الأراضي المصرية، وتعاملت مع الفكرة على أنها لم يسبق لها مثيل ولم يجرؤ أحد على خوضها منذ خمسينيات القرن الماضي. وتركز اهتمام وسائل الإعلام على تبعية الجزيرتين لمصر، وروّجت أيضاً للقول إنّ المقابل هو حصول مصر على 200 مليار دولار من السعودية مقابل إعادة ترسيم الحدود.
ونظراً إلى أنّ أغلب المصريين يستقون معلوماتهم من البرامج التي تطلق على نفسها «توك شو»، وهي أبعد ما تكون عنه بالمفهوم العلمي والإعلامي، تحوّل الأمر لدى الكثيرين إلى مسلمات، وتعامل الكثيرون على أساس أنّ معلومة الفضائيات هي الأصل وما عداها هو الخطأ، حتى وصل هذا الأمر إلى بعض الصحافيين والكتاب الذين يحاولون أن يتصدّروا المشهد السياسي.
ولم يكلف البعض نفسه بالرجوع إلى العلم والمعرفة لإثبات وجهة نظره، ولكنه اكتفى بالفكرة التي تمّ تصديرها إليه، حتى ثار الجدل واتسعت رقعته، في وقت تراجعت فيه الفضائيات ذاتها عن الفكرة بعد إشعال الرأي العام ضدّ الدولة.
وقد فات الكثيرين أنّ فكرة الجسر البري بين السعودية ومصر، ليست وليدة زيارة الملك سلمان، ولكنها فكرة قديمة مر عليها أكثر من 28 عاماً، وتحديداً في عام 1988 حينما تمّ عرضها أثناء زيارة الملك فهد بن عبد العزيز إلى مصر إبان فترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، وهي الفكرة التي تعطلت لأسباب سياسية تتعلق بجغرافية شرم الشيخ وكونها مصدراً للسياحة الوافدة إلى مصر، ووقتها لم يظهر الجدل الحالي حول ملكيتهما أو بيع مصر لهما، وإنما كان رفض المشروع هو الأمر الظاهر في ذلك الوقت.
والثابت في التاريخ والجغرافيا أنّ الجزيرتين محلّ الجدل الدائر غير مأهولتين بالسكان، لا من الجانب المصري ولا من الجانب السعودي، وقد أشار المؤرّخ المصري المعروف جمال حمدان إلى أنّ مصر فرضت حمايتها عليهما بناء على طلب سعودي تقدّم به الملك عبد العزيز عام 1950 الذي وضعهما تحت تصرف الملك فاروق الذي كان يحكم مصر آنذاك، لنشر الجيش المصري فيهما حماية لمصر من أيّ اعتداءات «إسرائيلية» عليها، وهو ما يفسّر تصريحات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عن أنّ الجزيرتين مصريتان، في إشارة إلى قدرة مصر على استخدامهما في صدّ أيّ عدوان «إسرائيلي» على مصر. وأكد ذلك أيضاً في سبعينيات القرن الماضي دخولهما في اتفاقية السلام التي أبرمها الرئيس الراحل أنور السادات مع الجانب «الاسرائيلي»، حيث اشترطت اسرائيل يومها عدم وجود قوات عسكرية عليهما، خوفاً من تهديد مصري لها.
قضية الملكية هنا ليست هي المقصودة، وإنما الأبعاد السياسية والاقتصادية هي التي يجب أن تكون محلّ اهتمام ودراسة ونقاش، وألا يتمّ التغاضي عن الأصل في القضية ويتمّ فتح الأبواب أمام الفروع لاستنزاف القدرات المالية والعقلية لدى الكثيرين.
وما ظهر حتى الآن في الزيارة التي قام بها الملك سلمان إلى مصر، أنها زيارة اقتصادية بالدرجة الأولى، كشفت عن ملامحها العديد من الاتفافيات التي تمّ إبرامها بين الجانبين.
ولعلّ أبرز ما تضمّنته الاتفاقات هو إنشاء الجسر البري بين الجانبين، ويبدو من الفترة الزمنية الطويلة بين طرح فكرة المشروع وإعادة إحيائه أنه له أهميته لكلا الجانبين وأنّ أسباباً كانت وراء تعطله خلال فترة قاربت على ثلاثة عقود، وأنّ تنفيذه له عوائد اقتصادية كبيرة على كلا الجانبين، وهو ما يطرح تساؤلات حول ماهية المشروع والتكلفة/ العائد منه وأسباب تأخره طيلة كلّ تلك المدة الزمنية، والعودة به مجدّداً خلال زيارة الملك سلمان لمصر.
المشروع باختصار، هو عملية ربط بين مصر والسعودية عبر جسر يمرّ على البحر الأحمر بطول يصل إلى 23 كيلو متراً، وعلى ارتفاع 65 متراً عن المياه، ويبدأ من جزيرة تيران بجوار شرم الشيخ المصرية متجهاً إلى جزيرة صنافير بالسعودية، وتبلغ تكلفة هذا المشروع وفقاً لبعض التقديرات 4 مليارات دولار، ويستغرق تنفيذه حوالى 4 سنوات.
ويساهم تنفيذ المشروع في تنشيط التجارة البينية بين الجانبين المصري والسعودي من ناحية، وبينهما وبين الدول العربية وجنوب أوروبا من ناحية أخرى، مروراً بمصر.
وأشارت بعض التقديرات المتعلقة بتحليل التكلفة / العائد للمشروع بأنه يدرّ عوائد اقتصادية كبيرة على السعودية ودول الخليج نتيجة تصدير البترول عبر أنابيب على جسم الجسر، فضلاً عن تنشيط التجارة المصرية، وكذلك عمليات نقل الأفراد وخلق فرص عمل للمصريين وتسهيل حركة التجارة، نظراً لأنّ مدة عبور الجسر من مصر إلى السعودية لا تتعدّى 20 دقيقة.
إذن هناك فائدة اقتصادية كبيرة تعود على الجانبين بعد بناء الجسر، ولكن هناك أسبابا أخرى أدّت إلى أن يتعقد المشروع ويجمّد تنفيذه لمدة 28 عاماً، وفي هذا الصدد أكد البعض أنّ عوامل سياسية كانت وراء عدم تنفيذ المشروع قدّمها الرئيس الأسبق مبارك على أنها تضرّ بمنطقة شرم الشيخ التي يبدأ منها المشروع، والتي كان ينظر إليها مبارك على أنها العاصمة السياسية لمصر، وأنها الوجهة السياحية العالمية التي تدرّ عوائد اقتصادية عالية لتشكل هي وقناة السويس المصدرين الأساسيين للعملة الأجنبية في إيرادات الدولة، وهما السبب الذي جعل كلّ وزراء النقل خلال فترة حكم مبارك يتراجعون عن تنفيذ الفكرة حتى جاء الرئيس السيسي وقدّم لها من جديد وهو ما تمّ الاتفاق عليه بينه وبين الملك سلمان، ليتحرّر المشروع من العوامل السياسية ويدخل الدائرة الاقتصادية التي فرضتها عليه أوضاع الاقتصاد الدولي، التي تأثرت بأسعار النفط ومن ثم تهديد إيرادات دول الخليج هذا بجانب الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمرّ بها مصر خاصة بعد أحداث كانون الثاني/ يناير 2011 وما تلاها من أحداث أكلت عوامل التنمية وهدّدت الاقتصاد القومي، فضلاً عن تراجع قيمة الجنيه المصري في مواجهة الدولار، مما جعل من تنفيذ المشروع ضرورة قصوى تفرضها الأوضاع الاقتصادية التي يشهدها العالم والمنطقة على حدّ سواء.
تنفيذ المشروع إذن له عوائد اقتصادية كبيرة، وفي الوقت ذاته له مخاطر سياسية يراها البعض في إفادة «إسرائيل» بشكل غير مباشر، وذلك عن طريق فكرة تصدير البترول الخليجي إلى جنوب أوروبا حيث يمرّ بالأراضي المحتلة، مما يجعل من الكيان الصهيوني محطة للمرور تستفيد منها اسرائيل بشكل غير مباشر.
وأياً كان الوضع فإنّ الحدث عن الجسر ينبغي أن يتجاوز فكرة ملكية جزيرتي صنافير وتيران ويمتدّ إلى الأبعاد الاقتصادية والسياسية، وهو المطلوب بدلاً من الخوض في حديث العتبة الخضراء.
كاتب وصحافي مصري