مي تلمساني: أناضل لدولة مدنيّة حديثة في مصر لا تحكمها الفاشيّة الدينيّة أو العسكريّة
كتب عمّار المأمون ـ أونتاريو ـ كندا:
إلى جانب عملها الأكاديمي وعملها في الصحافة والكتابة والترجمة، تنشط الروائية المصرية مي تلمساني على الإنترنت، ولها حضورها وسط الشباب المصري. تنتمي التلمساني إلى أسرة من السينمائيين، ورغم ذلك اختارت الكتابة ومن مؤلفاتها «دنيا زاد» و»هليوبولس» و»أكابيللا»، التي ترجمت حديثاً إلى اللغة الفرنسية.
ليست التلمساني غريبة عن عالم الفن نظراً إلى تاريخ أسرتها ووالدها المخرج عبدالقادر التلمساني، ولدى سؤالها عن سبب اختيارها للكتابة، تجيب: «لم يكن اختياراً واعياً في البداية، كنت في سن السادسة عشرة أتمنى أن أدرس السينما وعندما سألني أبي وهو مخرج سينمائي، لماذا السينما؟ أجبته لأني أريد كتابة سيناريوات. ربما تكون هذه أولى علامات الوعي الكامل بأني أرغب في ممارسة الكتابة كمهنة. لكني أدركت بعد تلك الحادثة بسنوات أني أفضل العزلة في العملية الإبداعية، وأفضل السيطرة الكاملة على أدوات العمل بلا تدخل من أحد، وتزامن هذا مع كتابة قصص قصيرة ونشرها مطلع التسعينات».
عن الثورة في مصر وإمكان تأسيسها لكتابة جديدة تتناسب مع التغيرات التي تشهدها البلاد تقول التلمساني: «لا يمكن الحكم على هذا التأسيس بعد، فهي ثورة وليدة لم تمض عليها أربع سنوات. لكنها ستسمح للبعض بلا شك بالخروج من مأزق الكتابة الذاتية الذي انحصر فيه جيل كامل وبدا كأنه لا فكاك منه حتى قيام الثورة التي فاقت بقوتها وسطوة الحركة الشعبية التي رافقتها كل توقع وكل تقوقع فرضه الكتاب على أنفسهم في السنوات العشرين الأخيرة. أتمنى أن أرى في الكتابة المصرية المستقبلية تثويراً لأدوات ومناهج، وبنية الكتابة تسمح فعلياً بأن نقول إن ثمة كتابة جديدة ولدت بعد الثورة. أما الكتاب من جيلي فما زلت أستمتع بكتاباتهم وإن لم أر فيها بعد أثراً واضحاً للثورة، وليس هذا مطلباً في ذاته في أيّ حال».
هل تصنف التلمساني نفسها من الكاتبات اللاتي يدافعن عن حقوق المرأة، خاصة في ظل صعود التيار الإسلامي في مصر؟ وهل الكتابة قادرة فعلاً على التغيير، حول هذين الموضوعين تجيب: «لا أصنف نفسي روائية من هذا المنظار الأنثوي. وأعتقد أن لا جنس للكتابة الإبداعية. لكني أدافع عن الحقوق العامة للرجل والمرأة خارج الكتابة الإبداعية، في المقالات وفي مجال البحث العلمي وفي الكتابة النضالية لأجل دولة مدنية. كما أدافع عن هذه الحقوق ضدّ مدّ التيارات الدينية المتشددة وضدّ الإسلام السياسي عامة، وأعتبرهما مصدري خطر حقيقي على المجتمع رجالاً ونساء. هذه أيديولوجيات لا تسمح بحرية التعبير والفكر وتقمع كل اختلاف وتتسلط على المجتمعات العربية وأراها السبب الحقيقي في السنوات الثلاثين الأخيرة وراء نكبة العرب عامة».
يقال «الرواية هي ذاكرة المقهورين»، فكيف تصف التلمساني علاقة الكتابة مع التاريخ؟ خاصة أن مصر الآن تمرّ في مفاصل تاريخية؟ تجيب: «هي علاقة ملتبسة لأن ذاكرة المقهورين تعبير يمكن أن يكون مطاطيا. القهر أنواع في عالمنا العربي، ضدّ المستضعفين والفقراء، ضدّ المرأة والطفل، ضدّ العلمانيين والماركسيين، ضدّ من يعاني من الأمية وأنصاف المتعلمين. الكتابة التي أمارسها هي في معناها العام ذاكرة لجميع هؤلاء بشكل أو بآخر. مثلاً مناقشة قضايا تخص مشاعر الحب والصداقة في روايتي الأخيرة «أكابيللا» القاهرة، 2012 قد لا تكون لها علاقة مباشرة وواضحة بالقهر، لكنها تجاهد ضدّ مبدأ الثبات، ضدّ اليقين، ضدّ الربط المتعسف بين حرية المرأة والحرية الجنسية، ومع مبدأ الحركة، والشك، والتعالي، والتخلي، والاستقلال في الصداقة وفي الحب بين رجل وامرأة أو بين امرأتين، إلخ».
ما هي محدّدات العلاقة مع النص- الجسد في ظل المقولات والتصرفات التي تهاجم الجسد القمع وتلك التي تقف في وجه النص الرقابة ؟ جواب تلمساني: «لأن الجسد جزء من التابو، أو المحرم الظاهر، يأخذ أحياناً كموضوع أدبي أبعاداً تفوق حدوده، ويطغى على مناقشة أشكال التابوات الأخرى الأعمق مثل تابو السلطة الدينية. أدافع عن حرية التعبير بجميع أشكالها، الجنسي والسياسي والديني، لكني أدافع بخاصة عن الأدب كقيمة إبداعية لا ينقذها من السقوط موضوع مثل موضوع الجسد. الصعوبة التي أراها قائمة إلى اليوم تكمن في صعوبة كتابة نص أدبي مركب عن الجسد ليس معنياً باستسهال الكتابة الإروتيكية وبمقاومة الرقابة عبر كتابة فضائحية، بل يكون معنيا بالمعنى العميق للعلاقات الجسدية، بحزنها وارتباكها وشطحاتها ونزواتها وتحرّرها وانغلاقها وأنانيتها وقدرتها على تحريك الساكن في الروح وفي الجسد معاً. كتابات بروست حول العلاقات الجنسية مثلاً تعطي هذه المنطقة الإبداعية فرصة الانطلاق».
كيف تصف التلمساني الحالة السياسية في مصر، خاصة حالة الشعب المصري الذي خلع رئيسيين؟ وما موقفها من حكم «الإخوان المسلمين» سابقاً والسيسي حالياً؟ «وصف الحالة صعب، وأقل ما يقال عن مدى تعقيدها أننا في حالة تأهب واستعداد قصوى تبلغ بالبعض حدّ الخوف والارتعاب من السقوط وتجعل البعض يتصور أننا انتهينا من الثورة. في ظني أن الثورة ما زالت مستمرة ولم تنته في 11 شباط 2011، وهي مستمرة بآليات عمل جديدة ومتنوعة. إنها ثورة ضدّ نظام مبارك كاملاً. سقط مبارك واستمر النظام موجوداً متمثلاً في «الإخوان المسلمين» وهم جزء من نظام مبارك منذ سنوات متمثلاً في المؤسسة العسكرية التي كانت تحميه ويحميها والتي ترغب في البقاء في السلطة. كنت وما زلت ضد نظام مبارك بفكّيه الإسلامي والعسكري، وما زلت أناضل لأجل دولة مدنية حديثة في مصر لا تحكمها الفاشية الدينية التي ظهرت بكامل عنفوانها الشرس في فترة حكم مرسي، ولا تحكمها الفاشية العسكرية».
هل تمكن «الربيع العربي» من إحياء صوت المرأة؟ وهل ثمة تغيّر في مقولاتها بعد حركات الاحتجاج التي عمت المنطقة؟ تقول: «بلا شك، الربيع العربي بكل ما تلاه من فصول سمحت لهذا الفصيل المهمش من المجتمع بالظهور والمشاركة والتأكيد على عدد من القضايا الكبرى المتعلقة بحريات مسلوبة منذ عقود. في مصر، كان لحكم «الإخوان»، ومعهم التيار السلفي في البرلمان الذي استمر ستة أشهر وحُلّ في حزيران 2012، أثر في تراجع حركة المرأة وفي كمّ صوتها إلى حين ولو أنه قصير». رأينا مثلاً برلمانيات من «الإخوان» ينادين بشكل أقل ما يقال عنه إنه رجعي ومتخلف لسماحه بزواج البنات الصغيرات! هذا لم يمنع نساء كثيرات في مصر من المشاركة المباشرة في التظاهرات، ولا من ممارسة حرية التعبير السياسي، حتى لو ظلت بعض الفئات مهمشة في البيوت وفي العمل. مقولة المساواة لم تعد فعلياً مقولة على الورق، بل رأي الناس جميعاً، حتى وإن اختلفوا في تفسير حدود هذه المساواة، ضرورة الاعتراف بها. والجدير بالاهتمام أنها تجلت عبر فئات المجتمع كافة، من نساء المدن إلى نساء الريف، ومن المحجبات والمنقبات إلى النساء الأكثر تحرراً من الزي الإسلامي، اللاتي شاركن جنباً إلى جنب في التظاهر وفي التعبير عن رأيهن عبر قنوات التواصل الاجتماعي والإعلامي».