مَنْ يقف بوجه الفتوحات الكردية؟
سعدالله الخليل
بين الوطن الواحد والانفصال تسير اليوميات الكردية، وبين الرغبات والممكن والحلم الدفين بدولة مستقلة، والظروف الموضوعية لإمكانية التحقيق والحياة، يتعايش الأكراد مع التطورات السياسية والعسكرية والأمنية لحين نضوج الرؤية والمصير، وبين المظلومية التاريخية التي طالتهم خلال عقود في المنطقة، والتي دفعت الكثير من القيادات الكردية لتبرير التعامل مع أيّ قوة تحقق لهم مكاسب سياسية وأمنية وعسكرية، وهو مبدأ مبرّر في عالم السياسة، فما المانع من أن يتعاطى الأكراد مع أميركا للحصول على حكم ذاتي في إقليم كردستان؟ حين سمحت الظروف إبان الاحتلال الأميركي، وتقاطعت المصلحة الأميركية بالرغبة الكردية وثبتت زعامة مسعود البرزاني، وعاش الإقليم نهضة عمرانية واقتصادية قوية وبات محط أنظار كبريات الشركات العالمية، ومثال يحتذى لحياة الرخاء والأمان، وسط عاصفة حروب تضرب بالمنطقة تسعى لشرذمتها وجعلها بؤرة صراعات لا تنتهي بعناوين ومفاتيح مختلفة سياسية وطائفية واثنية، وكلّ ما يخطر على بال ما مكّن الإقليم من التفرّد بأجواء مثالية إلى حدّ ما مقارنة مع لهيب المحيط.
في سورية تبدو المقاربة الكردية غير بعيدة عن نظيرتها العراقية، وإنْ اختلفت التوجهات بين رؤية الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي بزعامة مسعود البرزاني، عن سلوك قيادة حزب الاتحاد الديموقراطي الكردستاني برئاسة صالح مسلم، إلا أنّ الجوهر فيها واحد بالوقوف بما تمليه المصلحة الكردية وقراءة موازين القوى والسير بمقتضاها، منذ الشرارة الأولى للأحداث السورية، فلبّى الأكراد النداء مبكراً بل ساهموا ونظموا أوائل التظاهرات المطالبة «بإسقاط النظام»، في مناطق تواجدهم ورفعوا سقف الشعارات ككلّ المتظاهرين، وتغنت قنوات البث المباشر بتظاهرات الدرباسية وعامودا، ولعلّ الخامس والعشرين من آذار 2011 يشهد لتظاهرة القامشلي التي رفعت فيها شعارات «لا نريد جنسية بل نريد حرية» على وضوح الطرح الكردي الرافض لأيّ تعاط مع السلطة السورية، ومع تنامي حركة التظاهرات رفع الأكراد لواء المعارضة المطلقة، صابّين جامّ غضبهم على كلّ صوت كردي ينادي بالحوار السوري، أو الشراكة في الوطن لدرجة اتهامه بالعمالة «للنظام» أو السعي لبناء قاعدة جماهيرية لا يمتلكها بمساعدة الأجهزة الأمنية السورية، ومع تنامي العمل المسلح والإدراك الكردي بصعوبة إسقاط النظام وبروز التنظيمات التكفيرية كرأس حربة ووضع تركيا الأكراد في قائمة أهدافها، فغيّر الأكراد استراتيجيتهم في التعاطي مع القيادة السورية، خاصة في ظلّ الحاجة الماسة إلى السلاح لخوض معركة لا يمكن الاعتماد فيها على ما يؤمّنه مقاتلو حزب العمال في تركيا، خاصة في ظلّ التشديد التركي على الحدود وصعوبة تلبية الحاجات، فكان التواصل الخفي مع القيادة السورية، من البوابة الروسية لتسليح وحدات الحماية والمرأة بمبرّرات الدفاع الذاتي المدني عن الأراضي السورية، ونجحت تجربة الوحدات بحماية المناطق الكردية من الاستهداف بالاعتماد على ما وفرته سورية وروسيا من سلاح وذخيرة ودعم لوجستي غير معلن ولكنه غير خفي.
مع الدخول الأميركي على خط المواجهات، حذا أكراد سورية حذو أقرانهم في العراق بالتنسيق المباشر مع واشنطن، دون أن يديروا الظهر للدعم الروسي والتنسيق السوري لضمان مشاركة سياسية في المفاوضات، فنسق الأكراد مع الطيران الأميركي في معارك عين العرب من بوابة أولوية تحرير الأرض، وامتدّ التنسيق لتسهيل التواجد الأميركي على الأراضي السورية سواء في قاعدة الرميلان وغيرها من المواقع السورية، وزيارات المسؤولين الأميركيين التنسيقية خير شاهد على التعاون الذي أثمر بإنشاء قوات سورية الديمقراطية، كفصيل مسلح عصبه الرئيسي الأكراد، وبالدعم الأميركي والروسي وصلت تلك القوات على مشارف الرقة وتوقفت إلى أن أتت التوجيهات الأميركية بالسير في معركة تحرير الرقة بالتغطية المباشرة من الطيران الأميركي، معركة أثارت تساؤلات عدة أجاب عن جزء منها غريب حسو ممثل حزب الاتحاد الديمقراطي أكراد سورية في إقليم كردستان العراق، بالقول إنّ مدينة الرقة ستكون جزءاً من النظام الفيدرالي الذي أسّس له الأكراد بعد تحريرها من تنظيم «داعش»، دون أن يبيّن عن أحقية الأكراد بضمّ الرقة وهل الدعوات الأميركية لسكان المدينة مغادرتها تصبّ في هذا السياق.
إذاً… قرأ الأكراد سياق التطورات السورية بإمكانية التوسع في الجغرافيا السورية، وهذا من وجهة النظر السياسية حق مشروع لهم في زمان الحروب، ولكن الأسئلة التي لا بدّ من طرحها ماذا بعد الرقة؟ وأيّ دور ستلعبه المقاطعة الرابعة في مشروع الإدارة الذاتية؟ وهل ستسمح دمشق وموسكو بنمو الكيان الكردي خارج حدوده بمباركة أميركية أم سيعود لحدوده الطبيعية فور زوال التأثير الأميركي؟ أسئلة تتطلب التوقف عندها بتمعّن.
في المبدأ تدرك دمشق وموسكو أنّ الحضور الكردي ما كان ليتمّ لولا التوافق الروسي الأميركي السوري، على لعب الأكراد دور بحجم حضورهم، وفي العمق والممارسة فإنّ قدرتها على إدارة المعركة على الأرض السورية في اللحظات الحاسمة، حيث تتداخل الجبهات وتتعقد الساحات وحدها الكفيلة بالوقوف، في وجه الفتوحات الكردية وردها إلى حجمها الطبيعي.