أميركا وحزب الله… إلى الحرب الإقليمية؟
ناصر قنديل
– لم يكن ولن يكون على الأرجح على جدول أعمال حزب الله القبول بالعروض الأميركية المتواترة منذ سنتين للانخراط في تفاوض غير مباشر وعلاقة تنسيق موضعية، رغم الاستعداد الأميركي الذي نقله أكثر من مرجع ديبلوماسي أوروبي التقى قيادات من حزب الله، وشخصيات عربية سياسية وأمنية ذات مواقع رسمية في بلادها أو ذات مكانة في الشأن العام، وشخصيات وزعامات لبنانية، وذلك ليس نوعاً من مجرد عناد عقائدي ناجم عن وصف حزب الله لأميركا بالشيطان الأكبر، وصاحب مشروع الهيمنة الواقف وراء كلّ الخراب في المنطقة، وكلّ حروب التدمير، وحسب، بل لأنّ حزب الله يعرف بالملموس انّ القضية التي اتخذها لنفسه بوصلة موجهة والمتصلة بمقاومته لـ«إسرائيل»، لن تستقيم وتنسجم مع أيّ نوع أو مستوى من العلاقة، ولو غير المباشرة مع واشنطن.
– نشهد خلال هذه الأيام نماذج من التعاطي الأميركي التي تتيح لحزب الله تأكيد صحة استنتاجاته فكلّ الكلام الذي نقله الوسطاء عن نظرة أميركية إيجابية لدور حزب الله في الحرب على «القاعدة»، والتي جاء بعضها شبه علني عمّمه النائب وليد جنبلاط نقلاً عن الدبلوماسي الأميركي فوق العادة والمرشح لمنصب وزير خارجية في ظلّ رئاسة هيلاري كلينتون، السفير السابق جيفري فيلتمان، ثبت أنها رسائل علاقات عامة أو تمنيات لا ترتقي الى مستوى السياسة، ومثلها المقارنات التي تعقدها ورش عمل في مراكز دراسات أميركية تخرج باستنتاجات مقارنة بين تنظيم «القاعدة» وحزب الله، او ما تسمّيهما بالجهاديتين السنية والشيعية، وتقول بأنّ حزب الله حزب عقلاني قوي وقاسي لكن حربه تحت سقوف وضوابط، ليس فيها قتل المدنيين، ولا المجازر الجماعية، ولا الاستهداف لخلاف رأي أو عقيدة أو دين، ولا نقل للمواجهة الأمنية مهما كان الخلاف كبيراً إلى خارج ساحة مواجهته مع «إسرائيل» وتنظيم «القاعدة» مؤخراً في سورية وربما خارجها، فرغم كلّ ما يُقال أميركياً في سياق التحريض على حزب الله يدرك الأميركيون انّ الحزب لا يفكر ولم ولن يفكر بعمليات في أوروبا ولا في أميركا تستهدف مدنيين ولا عسكريين ولا حكوميين، بينما كلّ ممنوعات حزب الله هي عقيدة «القاعدة»، ورغم ذلك يكتشف حزب الله أنّ التعاطي الأميركي معه في العمق لا يشبه كلّ هذا الكلام وهذه المقارنات.
– تشهد الحرب المالية التي تقودها واشنطن على حزب الله والآتية في تصاعد بدأ منذ عشرة شهور بعد زيارة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى واشنطن ولقائه مع الرئيس باراك أوباما، والذي أعلنا بنتيجته انّ الأولوية هي للحرب على حزب الله، انّ حرباً حقيقية تخاض تحت عنوان الحرب الناعمة تنطلق ضدّ الحزب، وتتأسّس على مراجعة أميركية «إسرائيلية» مشتركة لحروب وأحداث القرن الحالي، والقبول بحقائق القوة الروسية والإيرانية، والتأقلم مع حدودها، والتعايش مع آفاق تعافي سورية والسعي للاشتغال عليها من داخل مفهوم التسوية والحرب المزدوج، لكن جعل التحوّلات المقبلة لحساب إيران وسورية مشروطة بالفوز بالحرب على حزب الله، ولذلك تخاض حرب الشيطنة والإضافة على لوائح الإرهاب ويشترك في ذلك وفي العقوبات الجماعية للبيئة الاجتماعية التي يحيا حزب الله وسطها خصوصاً على مستوى الانتساب الطائفي، أملاً بفكفكتها من حوله، وتبعيضها، والاشتغال عليها بقوة المصالح بمنطق الفك والتركيب، والضمّ والفرز، والترغيب والترهيب، وصناعة الوسطاء، بهدف إعادة صياغة الطبقة الوسطى وطبقة رجال الأعمال في الطائفة، وفق قاعدة يثبت وينجو من يبتعد عن حزب الله، ويحارَب ويقع في إفلاس ويخرج من النادي الاقتصادي من يلتصق به، وتصنيع وسطاء من نخب قانونية وإعلامية ودينية يجري إعدادهم كمرجعية بديلة ينصح باللجوء اليها لتقديم أوراق الاعتماد والفحص والتحقق لمن يرغبون بالحفاظ على كراسيهم في النادي المالي.
– في المقابل جاء تفجير بنك لبنان والمهجر ليقول لحزب الله، انّ ما يتوقعه ليس إلا وجهاً من وجوه الحرب، فرفع الصوت سيقابل بردود أمنية تستهدف القطاع المصرفي ورموزه، وإلصاقها به، وخلق مناخ شبيه بالذي عاشه ولا يزال مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وربما وصولاً لتوجيه ضربات موجعة للقطاع المصرفي، من سحب ودائع وإفلاس مصارف وإقفال بعضها، وربما الضغط لاستقالات لمواقع فاعلة، وصولاً إلى تفجير الوضع النقدي وضرب الليرة، وتحميله التبعات، بما يصيب الضفة المقابلة من جمهور البيئة التي يعيش وسطها، وهي ذوي الدخل المحدود والفقراء الذين يصيبهم كلّ ما يطال العملة الوطنية بلقمة عيشهم، وتحميل الحزب مسؤولية هذا الانهيار.
– في المقابل يشهد حزب الله عملياً كيف لا تزال تتدفق أموال «داعش» و»النصرة» وسائر مكونات القاعدة ومتفرّعاتها، وهشاشة الحملة الإعلامية والمالية التي تستهدفها، فحكاية النفط عبر الحدود التركية صارت كحكاية ابريق الزيت، والأمر مستمرّ ومتواصل منذ سنوات وعلناً، تحت نظر الأقمار الصناعية، وفوق ذلك لا تزال التبرّعات التي تجمع لجمعيات الوهابية التي تعرف واشنطن أنها تذهب لدعم تنظيم «القاعدة»، تتمّ علناً وتحوّل علناً عبر الشبكة المصرفية التي تمسك واشنطن بخيوطها وتسعى عبرها لخنق حزب الله في المقابل، بمحاصرة بيئته وهي تعلم أنها لن تؤذي حزب الله مالياً، لكنها حرب سياسية لإعادة صياغة بيئته الاجتماعية سياسياً بقوة التأثير المالي العقابي، ويمكن لأيّ مراقب قياس مقارن لكمية التصريحات والقرارات والقوانين والساعات التلفزيونية والتصريحات الإعلامية المكرّسة لحزب الله بتلك المكرّسة فعلياً وليس شكلياً لإلحاق الأذى بتنظيم «القاعدة»، الذي تعترف واشنطن انه يستهدف أمنها، توصل إلى حقيقة انّ العدو بعين واشنطن هو حزب الله وليس «القاعدة».
– يخرج مدير المخابرات الأميركية جو برينان في حوار خاص مع قناة تابعة للسعودية، فيكيل المديح لحكام الرياض ودورهم في محاربة الإرهاب، ويشنّ الهجوم الناري على إيران بتهمة رعاية الإرهاب، ومعلوم انّ لكلّ من إيران والسعودية أداة قياس لعلاقتهما بالإرهاب يبدأ من المنظومة العقائدية والثقافية لكلّ منهما، والساذج يستطيع رؤية موقع الوهابية السعودية في تغذية منظومات الإرهاب بشلال بشري ومالي متدفق، وفي المقابل حصر مفاعيل منظومة ثقافة وعقيدة ولاية الفقيه الإيرانية، بإنتاج وطعم ورعاية قوى وطنية محلية مقاومة لمشروع الهيمنة الأميركية والعداون الإسرائيلي ضمن ضوابط، مفاهيم حروب الاستقلال الوطني تشبه تلك التي خاضتها التنظيمات والأحزاب الشيوعية التي قادت حروب التحرّر الوطني في ستينات وسبعينات القرن الماضي، والحذر من الوقوع في مثالب السلوك الذي يضعها في موقع التورّط بالسلوك الإرهابي، كاستهداف المدنيين والقتل الأعمى، والملاحقة على الهوية والعقيدة والدين والرأي، والعمل في الساحات الخارجية، ورغم ذلك لا يخجل برينان ولا يشعر بالحرج ولا يتورّع عن مديح عاصمة الوهابية التي قالت الوثائق الأميركية بمسؤوليتها عن إنتاج الإرهاب، وإعلان الحرب على عاصمة المقاومة التي تقول واشنطن وتعترف بأنّ ضوابطها تجعل الشراكة معها في الحرب على الإرهاب منتجة وممكنة.
– يستطيع حزب الله استنتاج حقيقتين من كلّ ذلك، الأولى انّ منظومة التصنيف الأميركية لا تزال محكومة بالأولوية الاسرائيلية على حساب المصلحة الأمنية الأميركية المباشرة، لأنّ المقارنة بين حزب الله وتنظيم «القاعدة» والتعامل الأميركي مع كلّ منهما لا توصل الى تفسير غير ذلك، فتنظيم «القاعدة» لا يتفوّق بما يجعله موضع قبول وأسباب تخفيفية لإعفائه من الحرب الشعواء التي تستهدف حزب الله، الا انّ تنظيم القاعدة لا يضع «إسرائيل» على جدول أعماله، عكس حزب الله، بينما يضع الغرب كله هدفاً، عكس حزب الله أيضاً، والثانية انّ واشنطن التي بدا أنها لا تضع «إسرائيل» بوابة عبور لسياساتها الشرق اوسطية للمرة الأولى في تاريخها، عندما وقعت التفاهم على الملف النووي الإيراني، تريد التعويض لـ«إسرائيل» بتمييز حربها على «القاعدة» عن حربها على حزب الله، بمنح الأولوية للمصلحة الإسرائيلية، وهذا هو جوهر تفاهم أوباما نتيناهو، الذي سيؤدّي بحربهما الناعمة الى توفير فرص خوض حرب خشنة وقاسية ضدّ الحزب تستبق نهاية الحرب في سورية، وتبلور حقائق خروج محور المقاومة قوياً لدرجة تهدّد أمن «إسرائيل».
– يستشعر حزب الله حرباً آتية، ويستشعر عبثاً يقترب من بيئته الاجتماعية ولا يستطيع منعه بسبب برود وبلادة وبلاهة السياسة اللبنانية، ويستشعر حرباً أمنية تستهدف لبنان ومصارفه خصوصاً، ويُراد تدفيعه ثمنها وتحميله تبعاتها وجعله الخاسر الأول فيها، فهل ينتظر الحرب، ام هم يدفعونه إلى جعلها مبكرة، تماماً كما حدث بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وصولاً الى حرب تموز بحساب خاطئ أميركياً و»إسرائيلياً»، وكما حدث في الخامس من أيار عام 2008 يوم قرّرت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة فك شبكة اتصالات المقاومة، باستسهال الاستنتاج انّ حزب الله حرصاً على عدم تفجير الأوضاع والوقوع في الفتنة، سيرضخ، هذه المرة السابع من أيار ليس لبنانياً فقد يكون إقليمياً، وكما استبق أسر الجنود الإسرائيليين روزنامة حرب كان يُراد إنضاج ظروفها، وفاجأهم حزب الله بالتوقيت، هل وضع أهل الحرب المالية الأميركية هذه الفرضية في حساباتهم ام توقعوا فقط ما توقعه السنيورة انّ حزب الله لن يخرج على الضوابط المرسومة، لكنه خرج خلافاً للتوقع؟
– هي حرب «إسرائيل» تخاض أميركياً، ونهايتها حرب «إسرائيلية»، فلماذا على حزب الله ان يعمل وفقاً لروزنامتهم، طالما يريدون تجنّب الحرب الإقليمية، وتجنيب «إسرائيل» الحرب المقبلة، فلماذا لا يضعون ان يسبقهم حزب الله إليهما وينقل اللعبة الى حيث يجيدها ويملك مفاتيحها ويتحكّم بقواعدها، قبل ان يكتمل عبثهم ببيئته وقبل ان يستكملوا تجريده من مصادر قوته السياسية والمعنوية ويكملوا حرب شيطنته؟