عن مستقبل تركيا بعد هيمنة أردوغان
حميدي العبدالله
واضح أنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استغلّ الانقلاب الفاشل لإحكام قبضته وحزبه على مقاليد الحكم في تركيا. وإذا كان ثمة من قال إنّ أردوغان يقوم بانقلاب جذري على تركيا العلمانية التي أسّسها أتاتورك وانبثقت من انهيار وتفتت السلطنة العثمانية، فإنه يصحّ القول أيضاً إنّ هذه هي «الجمهورية التركية الثانية» بالتعابير والتوصيفات الفرنسية، أيّ أنّ «الجمهورية الأولى» كانت الجمهورية العلمانية، ولكن الجمهورية الثانية ستكون «جمهورية إسلامية» بنكهة إخوانية. وبهذا المعنى فإنّ ما يجري في تركيا الآن أبعد ما يكون عن مجرد انقلاب.
في ضوء كلّ ذلك فإنه على مستوى التحليل والتوقعات يمكن رصد سيناريوين يحدّدان مستقبل تركيا:
ـ السيناريو الأول، مكوث حكومات حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان عشرات السنين، وتدشين حقبة إعادة تركيا إلى مرحلة الأسلمة. وواضح أنّ هذا ما يسعى إليه أردوغان وحزبه. من خلال توسيع نطاق إجراءات القمع والتطهير بذريعة محاربة جماعة فتح الله غولين، والتخلص من الذين شاركوا أو تواطأوا مع الانقلابيين. هذا السيناريو يستمدّ قوته من عنصرين أساسيين، الأول، وجود إرادة واضحة لدى أردوغان وحزبه للوصول إلى هذه الغاية، والثاني مناخ العودة إلى التديّن الذي عمّ العالم الإسلامي بعد إخفاق المشاريع القومية واليسارية والعلمانية في تحقيق تقدّم وازدهار كبير وواسع تستفيد منه غالبية شرائح المجتمع، حيث بات من الواضح أنّ الشرائح التي تدعم الأحزاب والجماعات الإسلامية هي تلك الشرائح الأكثر فقراً والأقلّ تعليماً.
ـ السيناريو الثاني، ولوج البلاد مرحلة من اللا استقرار والفوضى، وحتى احتمال تقسيم تركيا، الأمر الذي سيقود إلى الإطاحة بحكم حزب العدالة والتنمية، وإذا ما تمّ إغلاق طريق التغيير من خلال صناديق الاقتراع، فإنّ ذلك قد يحدث من خلال ثورة شعبية، أو انقلاب عسكري جديد، أو من خلال دمج العاملين على غرار ما حصل في مصر في 30 حزيران. هذا السيناريو يرجّحه خبراء غربيون مختصون بالشأن التركي، مثل «سونر جاغابتاي» الباحث في «معهد واشنطن» الذي يرجح أربعة توقعات تبدو كنتيجة محتملة لتحوّل «تركيا إلى دولة أكثر قمعية» حيث أنّ «ذلك خبر سيّئ للديمقراطية». يقول الباحث بشأن توقعه الأول سيجد خصوم أردوغان «إنه من الصعب على نحو متزايد، إنْ لم يكن من المستحيل، معارضة ديمقراطية. وسوف يختار البعض أن يكونوا عنيفين، ويتحوّلوا نحو الجماعات المتطرفة مثل حزب العمال الكردستاني وجماعات مماثلة»، أيّ أنّ قمع المعارضين الذي تصاعد بعد فشل حزب العدالة والتنمية في انتخابات حزيران 2015 سوف يتفاقم ويسدّ الطريق على الرهان على صناديق الاقتراع، وبالتالي اللجوء إلى العنف. ثاني التوقعات ينصبّ على وضع الجيش، يقول الخبير جاغابتاي «مما يثير نفس القدر من القلق على استقرار البلاد هو أنّ محاولة الانقلاب شملت قسماً من الجيش فقط، مما يشير إلى وجود انقسامات خطيرة في مؤسسة حافظت على تضامنها في ظلّ الانقلابات السابقة»، والأخطر بالنسبة له أنّ ذلك يمثل «ضربة جديدة لتماسك الدولة والمجتمع» و«القضاء على الدعم الحكومي والشعبي للمؤسسة أيّ الجيش التي كانت ذات مرة الأكثر ثقة واتحاداً في تركيا». وذلك يأتي في ظلّ تحديات أمنية خطيرة في تركيا أبرزها مقاومة الأكراد، وتغلغل المنظمات الإرهابية، وعلى رأسها داعش. التوقع الثالث قناعة المحلل والخبير في الشؤون التركية أنّ «محاولة الانقلاب سوف تسفر أيضاً عن تعميق التصدّعات الاجتماعية في تركيا، وزيادة التحوّل نحو فترة التسعينات»، حيث كان التقاتل الأهلي بين الجماعات السياسية المختلفة في تركيا. ولكن التوقع الرابع هو الأكثر خطورة ويتمثل في «التكلفة التي تلوح في الأفق» وهي «مواصلة تقسيم تركيا».
واضح أنّ ما ينتظر تركيا ليس ازدهار الديمقراطية والاستقرار والنمو الاقتصادي.
يستمدّ هذا السيناريو وجوده، وحتى ترجيحه على السيناريو الأول من خلال الآتي:
أولاً، قوة العلمانية. لا شك أنّ العلمانية التي طبّقت بصرامة في تركيا على امتداد أكثر من ثمانية عقود بات لها أنصار كثر، وترسّخت من خلال قيم وعادات وتقاليد يصعب اجتثاثها ببساطة، لا سيما في المدن الكبرى وفي الأحياء الأكثر رقياً وحضارة.
ثانياً، حجم التداخل بين الاقتصاد التركي والاقتصاد الغربي، ولا سيما الاقتصاد الأوروبي، وما ينجم عن ذلك من مصالح لفئات مؤثرة في صنع القرار داخل تركيا. وبديهي أنه يصعب على أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذهاب بعيداً في خياراتهم الإيديولوجية بمعزل عن تأثير الاقتصاد، ولعلّ هذا العامل يفسّر جزئياً التوتر السياسي الحاصل الآن بين الغرب وأردوغان والاتهامات الموجهة للغرب بعدم وقوفه الحازم ضدّ الانقلاب.
ثالثاً، الطابع المذهبي والقومي للحكم في ظلّ زعامة أردوغان وحزبه، الذي يتعارض مع التركيبة المجتمعية التركية التي تتميّز بتعدّد المذاهب والقوميات، وما كان يصلح في الدولة العثمانية، لا يصلح في الدولة التركية. فسيادة المذهب السني في الدولة العثمانية حيث كانت المذاهب والديانات الأخرى تمثل أقليات، في حين كان أتباع المذهب السني يشكلون أكثرية طاغية، ومع ذلك اضطرت السلطنة العثمانية لتقديم تنازلات في بعض المناطق لصالح الديانات الأخرى، مثلما حدث في جبل لبنان. تركيا الحالية وعلى الرغم من أنّ أتباع المذهب السني قد يشكلون نظرياً أكثرية، لكن عملياً هذا الأمر غير قائم، لأنّ جزءاً كبيراً منهم يؤمن بالعلمانية، وإذا أضيفت هذه الشريحة إلى المذاهب والقوميات الأخرى في تركيا، عندها يصبح أنصار الحكم المذهبي- القومي أقلية، وفي أحسن الأحوال حجمهم بحجم الجهات التي صوّتت لحزب العدالة والتنمية، ونادراً ما تجاوزت نصف من شارك في الانتخابات.
رابعاً، مستوى الصراع الدائر بين حزب العدالة والتنمية وحكومته والأكراد، حيث وصل هذا الصراع إلى درجة يصعب معها على تركيا حسمه لصالحها في ظلّ الوضع الجديد الذي يتمتع به الأكراد في محيطهم، ولا سيما في سورية والعراق، وحصولهم على قدرات عسكرية لم تكن متوفرة في فترات الصراع السابقة، إضافة إلى أنّ سياسة أردوغان حرمت تركيا من حلفاء إقليميين مهمّين يقفون إلى جانبها ضدّ الأكراد مثل سورية والعراق وإيران وحتى روسيا، وربما الولايات المتحدة التي تتعاون الآن مع أكراد سورية.
خامساً، مأزق أردوغان مع حلفائه. يواجه أردوغان مأزقاً حقيقياً مع حلفائه الغربيين. أردوغان يسعى إلى اعتماد سياسة تقوم على رؤيته الخاصة لمصالح تركيا، وهذه الرؤية تتعارض في كثير من جوانبها مع سياسات حلفائه. مثلاً الحكومات الغربية، وعلى رأسها الإدارة الأميركية، ترى أنّ الحلّ الأمثل للخلاف بين أكراد تركيا والحكومة التركية هو الحلّ السياسي بعيداً عن اللجوء إلى المواجهة العسكرية، ولكن تركيا حزب العدالة والتنمية لا ترى حلاً للقضية الكردية إلا عن طريق القوة، وهذه قضية أولى تشعل خلافاً مستمراً بين أنقرة وحلفائها. تركيا ترى أنّ التعاون الغربي ولا سيما الأميركي مع وحدات الحماية الكردية في سورية يشكل تهديداً لأمنها القومي، كما أنّ هذه الجماعة تشكل تهديداً لحلفاء تركيا من أنصار الإيديولوجية الدينية المتشدّدة كون وحدات الحماية الكردية تؤمن بالعلمانية. لكن الولايات المتحدة وحلفاءها يعتقدون أنّ التعاون مع وحدات الحماية الكردية في سورية هو الأسلوب الوحيد الذي يؤمّن نفوذاً آمناً للغرب في سورية من دون ارتدادات مؤذية من نوع تلك الارتدادات المرتبطة بالتعاون مع الجماعات الإسلامية المتشدّدة، وهذه مسألة ثانية لخلاف يبدو صعباً التوفيق فيه بين رؤية أنقرة ورؤية حلفائها الغربيين.
الدول الغربية، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة التي تريد من تركيا الانضباط المطلق بخططها وسياساتها الإقليمية الدولية، ولا سيما في التعامل مع روسيا وإيران، ولكن تركيا ترى أنّ الواقع الجيواقتصادي يفرض عليها التمايز عن حلفائها في التعامل مع هاتين الدولتين مع احترام عام للاستراتيجية الغربية، ولكن الغرب لم يعتد على قبول إعطاء حلفائه مثل هذه الاستقلالية حتى لو كانت استقلالية نسبية. وهذه أيضاً مسألة ثالثة للخلاف يصعب الخروج منها بحلّ يرضي ويلبّي رؤية ومصالح تركيا وحلفائها في آن واحد.
ولعلّ الخلاف حول الشأن الداخلي التركي، وتحديداً اعتقال الصحافيين والقضاة وتطهير صفوف الجيش، والتخلي عن العلمانية، هي مجرد وسائل تستخدم من قبل الغرب للضغط على تركيا للالتزام المطلق بسياساتها واستراتيجياتها بعيداً عن أيّ اجتهاد خاص، أيّ مطلوب من تركيا أن تعتمد سياسات مشابهة لسياسات بعض الحكومات العربية حليفة الولايات المتحدة، وعندها يصبح الغرب غير معنيّ بالممارسات الداخلية للحكومة التركية، بما في ذلك قمع الحريات العامة.
اليوم يواجه أردوغان وتركيا مأزقاً حقيقياً مع حلفاء تركيا، فهو غير قادر على الخروج من الناتو واعتماد سياسة الصدام المطلق مع الغرب، لأنّ تركيا مقيّدة بروابط اقتصادية وعسكرية لا يمكن الاستغناء عنها. وفي المقابل الغرب لن يسمح للرئيس التركي وحكومته أن تنشط على قاعدة الاستقلال حتى لو كان نسبياً عن السياسات الغربية. ومن الصعب معرفة كيف سيخرج الرئيس التركي وحزبه من هذا المأزق.