هل تمنع أميركا تركيا من اقتحام كوباني كما فعلت عام 2014 ضدّ «داعش»؟
ميشيل حنا الحاج
الموقف في سورية الآن دخل مرحلة مفترق الطرق. فالقوات التركية ودباباتها وصلت مشارف مدينة عين العرب كوباني . بل وقيل أنها دخلت مشارفها، رغم حصول تظاهرات احتجاجية من سكان المدينة. وهذا التطور الهام، يضع القضية السورية على مفترق طرق، أحدها تأكيد جدية الموقف التركي الجديد المتفاهم مع روسيا، المعادي لأميركا، الساعي لتطبيع العلاقات مع كلّ من مصر وسورية، كما قال رئيس وزراء تركيا بن علي يلدريم. إضافة الى توقفها عن معارضة بقاء الرئيس بشار الأسد في موقع القيادة، خلال المرحلة الانتقالية… وثانيها، احتمال دخول العلاقة التركية – الأميركية، مرحلة المواجهة الجدية المباشرة، وربما الدامية.
فهل تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة الآن، للتدخل لحماية «كوباني» من الاجتياح التركي؟ كما فعلت قبل عامين، عندما رمت بكلّ ثقلها للحيلولة دون سيطرة «داعش» على المدينة ذات الأكثرية الكردية.
وقد نجحت فعلاً آنئذ، في إحباط المساعي «الداعشية» التي اخترقت قواتها المدينة، وسيطرت على بعض أحيائها. لكن دفاع المقاتلين الأكراد ، بقيادة امرأة كردية، عمرها 40 عاماً واسمها ميساء عبدو، وبدعم من إغارات أميركية جوية مكثفة، وكمية من السلاح والذخيرة ألقتها لهم طائرات أميركية من نوع سي130… استطاعت كوباني الصمود ونجح المقاتلون الأكراد في طرد «الداعشيين» خارج المدينة، وحالوا بينهم وبين السيطرة عليها، مما اضطر مقاتلي «داعش»، في نهاية المطاف، إلى حزم أمتعتهم والرحيل عن «كوباني» منذ منتصف الشهر العاشر عام 2014. وشكل هذا فشلاً، بل هزيمة عسكرية لـ«داعش»، كانت الأولى من نوعها منذ ظهوره كتنظيم قوي لا يقهر.
وكان التوتر قد بلغ ذروته آنئذ، بين الولايات المتحدة وتركيا. فالرئيس التركي كان يرفض، بعناد، السماح لإمدادات الذخيرة والمقاتلين، بالمرور عبر الأراضي التركية إلى «كوباني». واستمرّ أردوغان في التشبّث بموقفه الرافض للتعاون، رغم مكالمة هاتفية طويلة قيل استمرت ساعة أو أكثر أجراها معه أوباما، جرى خلالها تبادل بعض العبارات الحادّة. وعندما تشبّث أردوغان بموقفه الرافض، لجأ أوباما، متحدياً، إلى استخدام طائرات سلاح الجو الأميركي، لإلقاء 22 طرداً محمّلاً بالذخائر وبالأسلحة والمواد الطبية، تسلّمتها القوات الكردية المقاتلة، وأعانتها على الصمود في وجه «داعش»، خصوصاً أن 150 عنصراً من «البيشمركة» كردستان العراق كانوا وصلوا أيضاً، اليها، مرورا عبر الأراضي التركية، بعد أن وجد أردوغان نفسه مضطراً لبعض التعاون، إزاء تقييمه لمدى جدية أوباما وتصميمه على تقديم الدعم للأكراد، رضي أردوغان بذلك أم لم يرض.
يبدو الآن، أنّ قفاز التحدي بات من المتوقع أن يرفع مرة أخرى، من الطرفين، في مواجهة كلّ منهما للآخر. فإذا كان التحدي الأميركي بلغ ذروته نتيجة الرغبة في حماية مدينة كردية واحدة، فكم ستكون حرارة هذا التحدي، وقد بلغ الأمر الآن، وضع العراقيل والعصيّ في الدواليب، في وجه مشروع أميركي أوسع، لحماية كامل المناطق الكردية في الشمال السوري تمهيداً لنوايا أميركية معلنة تسعى لظهور إقليم كردي يتمتع بحكم ذاتي، كخطوة أولى. ونوايا غير معلنة، تسعى لتشكيل نواة للمشروع الأميركي بعيد المدى، الساعي لتشكيل شرق أوسط جديد، لكن بإطار جديد، يؤدّي إلى نشوء دولة كردية مستقلة، على كامل المناطق الكردية في سورية والعراق وتركيا وإيران، باعتبارها ستكون حليفاً لكل من الولايات المتحدة و«إسرائيل»، في آن. فيشكلان معاً، كماشة تحمي المصالح الأميركية، وتحقق الأمان والاطمئنان للدولة «الاسرائيلية»، التي سعى مشروع الشرق الأوسط الجديد، بإطاره القديم، إلى تجزئة دول المنطقة إلى دويلات، بهدف حماية أمن «إسرائيل»، باعتباره الغاية القصوى للاستراتيجية الأميركية.
فالمشروع الأميركي الجديد، يحقق كامل ما سعى مخطط الشرق الأوسط الجديد بصيغته القديمة إلى تحقيقه، من دون إثارة اتهامات للولايات المتحدة بالعدوان وتفكيك الدول، تحقيقاً لمصالحها ومصالح ربيبتها «إسرائيل». ففي مشروعها الجديد، هي تطرح السعي وتقديم العون لتحرير أمة كردية ظلت تحت نير حكم الدول الأخرى لأجيال طويلة. وبات الآن، من العدل أن تساعدها الولايات المتحدة لتحقيق أمنيتها في الاستقلال، والتحرّر من حكم الآخرين، والاستقرار بدولتها الخاصة. إذن، هي الآن محررة لشعب وليست معتدية على شعوب أو دول. رغم أنّ مشروعها يقتضي انتزاع مناطق من كلّ من سورية وتركيا والعراق وإيران، كانت تشكل أجزاء من تلك الدول.
ومن أجل تحقيق هذا المشروع، الذي سيطرح كمشروع إنساني تحريري لشعب مقهور، قدّمت أميركا العون لقوات الحماية الكردية، ومن ثم لـ«جيش سورية الديمقراطية» الذي شكلته ودرّبته على مدى سنتين، وزوّدته بالسلاح والذخيرة ،بل والخبراء العسكريين أيضاً، من أجل تحقيق مخططها ذاك. وتقول الولايات المتحدة، إنها شكلته كبديل لـ»الجيش الحرّ»، بذريعة معلنة هي مقاتلة «داعش» إزاء عجز «الجيش الحرّ»، الذي عوّلت عليه كثيراً لتنفيذ هذه المهمة، لكنه تفكك وأصابه العجز وفقدان المقدرة على تنفيذ دوره. علماً أنّ القوات التركية تتدخل الآن في الشمال السوري جرابلس ـ الراعي ـ كوباني كدرع مؤازر لـ«الجيش الحر»، الذي يشكل رأس الحربة لذاك الزحف. ومن المعلوم أنّ قيادة «الجيش الحر» متواجدة في اسطنبول، تماماً، كما أنّ قيادة «جيش الاسلام»، قيادته أو مرجعيته، في السعودية. وقيادة «جبهة النصرة»، أو «جبهة الفتح» باسمها الجديد في أفغانستان. أما أين قيادة «داعش»، فالله هو العليم، إذ قد تكون في «إسرائيل»، أو في واشنطن، أو في الدوحة، أو في كوكب المريخ… الله أعلم.
إذن، التحدي كبير الآن، والمواجهة قد تكون أكبر إذا تشبّث كلّ من الأطراف بموقفه. ففي الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة لإنشاء منطقة كردية، تتمتع بحكم ذاتي في الشمال السوري، تريد تركيا تحويلها إلى منطقة عازلة تحت إشرافها، المشروع الذي طالما طرحته ورفضته الولايات المتحدة ، نتيجة تصنيفها أكراد سورية بأنهم متحالفون ومؤيدون لأكراد تركيا، الذين تقاتلهم الآن القوات التركية، فهم بالتالي يشكلون خطراً عليها.
الصراع إذن ليس مجرد صراع على مواقع جغرافية، فهو صراع تناحري وليس تحاورياً ، بين استراتيجيتين أساسيتين غير قابلتين للتغيير أو للتعديل، تقف كلّ منهما على نقيض الأخرى، وتنذران بالمواجهة المباشرة بين تركيا وأميركا، في ظلّ صمت روسي ماكر يراقب ويتحفز، بعد أن ضاق ذرعاً بالمماطلة الأميركية في التوصل إلى تسوية سلمية للمسألة السورية، رغم كلّ ابتسامات جون كيري، إثر كلّ جولة مفاوضات. إذ أدركت روسيا أخيراً، أنّ ابتساماته، هي نيوب ليث يبتسم!
كيف ستنتهي المواجهة بين الأطراف المتعدّدة المختلفة في أهدافها ونواياها: أمر قد يحتاج إلى بعض الوقت قبل انجلاء صورته. ولكن الانفراج قد لا يكون في مرمى عصا، رغم اللقاء الثنائي بين أوباما وأردوغان، الذي عُقد أمس على هامش قمة العشرين في الصين. فما رشح عنه اتفاق بين الطرفين للتعاون في تسهيل المعاناة في المناطق المحاصرة، خصوصاً في حلب. والأرجح ألا يكون هناك اتفاق أشمل وأوسع، إزاء عناد أردوغان وخصومته مع الأميركيين، التي ازدادت اشتعالاً بعد الانقلاب التركي الفاشل، ورفض الولايات المتحدة تسليم أردوغان، غريمه وحليفه القديم فتح الله غولن، الذي أكل معه «عيش وملح»، ويسعى الآن لتعليقه على حبل المشنقة.