انقلاب الصورة…
د. رائد المصري
لقد باتَ واضحاً بيان الوميض المتعلِّق بالمعادلات الدولية وبتشكيلها من خلال النقاشات التي جرَت بكثافة في قمَّة العشرين في مدينة هانغتشو الصينية، ذلك أنَّه بعد أكثر من ثماني سنوات من احتدام الصراع والتنافس الدولي حول إيجاد رؤية ومنهج للتقسيم الدولي الجديد للعمل، ظهرت علامات هذا التشكُّل في المنطق الاقتصادي الدَّولي حول التركيز على مفهوم التجارة الحرَّة في العالم الذي طالبت به الصين وركَّزت عليه بما يُعزز الشراكة الاقتصادية الحقيقية بين الدول، خاصة الدول النامية والدول الصاعدة لما باتَ لها من ثِقل وأهمية في ميزان التجارة والاقتصاد الدوليين.
فقد كانت مبادئ إجماع واشنطن العشرة التي أُرسيت وثبَّتَت دعائمها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989 مع الغزو المعولم واستباحة الحدود للدول بما يخدم المنطق الرأسمالي النيوليبرالي المتوحّش، حيث كانت تعمّم هذه السياسات ضمن النسَقِ الغربيّ الموجّه والمفروض بالقوة والهيمنة عبر أدوات صندوق النقد والبنك الدوليين، في نهب خيرات وثروات الشعوب بما يخدم الآلية الدولية في تقسيم العمل وعلاقات الإنتاج فيه حينذاك. هذا الامتهان والاستمرار العُنفي الغربي في الاستباحة قوّى من حضور الدول النامية والصاعدة وفعّل اقتصادها وحقق من نموها الذاتي، ولمّا باتت هذه الدول النامية أو الصاعدة هي بحاجة للانفتاح وعبور الأسواق الاقتصادية بدأ الغرب ودولُه الصناعية في اعتماد سياسات الحمائية منعاً لإغراق أسواقها لأنّ أدوات وعلاقات الإنتاج العالمي تغيّرت عكس مصالح هذا الغرب الناهِب لثروات ومحافظ الشعوب المالية.
إنّه ارتدادٌ عكسيّ في انقلاب الصورة، انقلابٌ عزّز معه حضور الدول النامية والصاعدة عالمياً وصدّع في المقلب الآخر من العالم ونقصد هنا الغرب الصناعي في بُناه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي وحداته السياسية حيث كانت أولى النتائج لهذا الانقلاب الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي والاستفتاءات المُقبلة لدول أخرى تُريد سلوك هذا المنهج.
ما أودُّ قوله إنّ المفاهيم الاقتصادية والتجارية والمالية التي حكمت العالم أقلّه منذ انتهاء الحرب الثانية قد تغيّرت اليوم، ومعها تغيّرت أدوات الإنتاج التي يستخدمها النظام الرأسمالي في تحقيق وفوراته المالية وتراكماته التي أفرغها في حروب متعدّدة في العالم اليوم وسيُفرغ الجزء المتبقّي في إعادة الإعمار لتكتمل دورة رأس المال وتنطلق من جديد.
من هذه الأدوات الإنتاجية التي تبدّلت عالمياً أقصد هنا النفط ودوره في الحياة الاقتصادية كسلعة استراتيجية والاستعاضة عنه، كذلك الغاز واكتشافاته في أكثر من مكان في العالم ودخول منافسين جُدُد في حلبة الصراع والإنتاج، وصولاً إلى صعود أو تصاعد دول إنتاجية حقّقت تنمية قوية وامتلكت وسائل التكنولوجيا الصناعية الحديثة وصارت تبحث هي الأخرى عن أسواق لتصدير سلعها وبضائعها وتريد أن تكون شريكاً ولو مضارباً في اتخاذ القرارات وحلّ الأزمات الدولية والإقليمية لترويج صناعاتها والدخول في الأسواق التجارية من الباب العريض.
لقد اكتسبتْ قمّة العشرين البكّينية في هانغتشو أهمّية في أنّها أفردت القيام بلقاءات ومباحثات ثنائية وثلاثية ورباعية، وأكثر من ذلك لإيجاد أو للبحث عن حلول كانت مفقودة حتى حينها ولا تلقى الاستجابة لأنّ العالم كان قد اكتفى بما اعتاد عليه من نمط أو أنماط مهيمنة غربية تحكُمها عولمة الاقتصاد المتوحش والمتفلّت من أيّ قيد أو ضبط، بحيث نسي هذا العالم أنّ الحركة الاجتماعية والاقتصادية هي في دورة تجديدية دائمة وهو منطق التطور الطبيعي للبشرية.
العالم المُتّحد هو عالم أقوى، فالاقتصاد الدولي والعولمة يواجهان عدداً كبيراً من التحديات الواجب مواجهتها. يتضح هذا من الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي ومن أسلوب إدارة المعركة في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، إذ إنّ الاتجاه المناهض للعولمة والعُزلة والحمائية التجارية هي قضايا يتزايد الحديث عنها باستمرار. وبالرغم من ذلك فقد أظهرت مرة بعد مرة، أنها ملتزمة بطريقها الذي اتّخذته نحو الانفتاح والاندماج مع الآخرين.
هو المناخ الاقتصادي الحالي نتيجة للأنماط المعولمة التي استحكمت في كلّ شيء طيلة خمسة وعشرين عاماً. أمّا في ما يختص بالتجارة الدولية فإنّ خارطة الطريق الصينية تساهم في إنشاء منطقة التجارة الحرة خاصة في منطقة الباسيفيك بهدف تسهيل التجارة وخفض التعريفات الجمركية وتعزيز التنسيق في سياسات الاقتصاد الكلِّية وبذل الجهود المشتركة نحو نمو الاقتصاد العالمي والحفاظ على الاستقرار المالي… هي قضايا تطوّرت من مجرّد مفهوم إلى هدف أصبح عملياً ولا زالت عملية مخاضها مستمرّة بسلاسة.