«إسرائيل» ومشهد الجنوب السوري… فرص افتراضية وتهديدات بالجملة!
مأمون الحسيني
لم تترك الجريمة الأميركية بحق العشرات من جنود الجيش السوري في محيط مدينة دير الزور، أيّ مجال للجدل أو الاجتهاد في حقيقة موقف واشنطن من الإرهاب والإرهابيين الذين نصّت الصفقة مع موسكو على تصنفيهم ما بين «معتدلين» ينبغي تحييدهم وعدم الاقتراب منهم، و»متطرفين» يجب تصفيتهم من قبل الروس والأميركيين وكلّ من يستطيع تقديم العون والدعم، ذلك أنّ هذا العدوان السافر الذي جرى التحضير له مسبقاً، بدليل استطلاع الطائرات الأميركية، قبل أيام وبشكل دقيق، لمواقع الجيش السوري في المنطقة، وعدم إصابة أيّ من عناصر «داعش» الذين كانوا على مسافة قريبة جداً من هذه المواقع، وقيام هؤلاء، وبعد القصف الجوي مباشرة، بشنّ هجوم على نقاط ومواقع الجيش في المنطقة. هذا العدوان الذي استنتجت موسكو أنه يؤكد «دفاع واشنطن عن تنظيم داعش»، لم يطلق النار على اتفاق لافروف – كيري الذي ترفض واشنطن نشر تفاصيله على الملأ حتى الآن فقط، وإنما جاء ليؤكد، بالدم والنار، أنّ الولايات المتحدة التي تدعم «داعش» و»النصرة» وبقية الإرهابيين ليست بصدد التنازل عن هذا «الذخر الاستراتيجي» الذي تقاتل به في مجمل أنحاء المنطقة، وهي غير مستعدة للتراجع، ولو خطوة واحدة، عن عملية تحطيم وتقسيم سورية، وليست في وارد التسليم بالإنجازات الميدانية والسياسية التي يحققها محور دمشق موسكو طهران – حزب الله على الأرض.
ويبدو أنه، ومن هذه الزاوية بالضبط، يمكن النظر إلى مشهد الجنوب السوري وارتفاع وتيرة استهداف سلاح الجو الإسرائيلي لمواقع الجيش العربي السوري، ولا سيما بعد فشل إرهابيّي «جبهة النصرة» وبقية المجموعات المسلحة في اختراق مواقع الجيش وحلفائه توطئة للسيطرة على منطقة حضر وتلول فاطمة ووصل بيت جن بجباتا الخشب، وتالياً، الهيمنة على الحزام الجغرافي المحيط بالجولان المحتلّ، من جهة، واستعادة الشيخ مسكين، وإعادة وصل ريف القنيطرة بريف درعا، وقطع طريق درعا الدولي، من جهة ثانية. ورغم التطوّر المفصلي الذي خطّته عملية التصدي السوري للطائرات الإسرائيلية، والتحوّل النوعي الذي عبّر عنه إعلان وزارة الدفاع السورية إسقاط طائرتين معاديتين، وبلورة إجراءات رادعة إزاء أيّ عدوان صهيوني، إلا أنه يصعب الجزم بإمكانية اشتعال حرب سورية – إسرائيلية شاملة في المدى المنظور المباشر. ومردّ ذلك، لا يعود فقط إلى التغيّر العملي في النهج السوري الذي كان يرفض الردّ مباشرة على أيّ اعتداء إسرائيلي، ويصرّ على اختيار «الزمان والمكان» المناسبين، أو إلى اختلاف وجهات النظر الإسرائيلية في كيفية التعاطي مع الملف السوري الملتهب، أو اختلال ميزان القوى العسكري السائد بعد تطورات الشمال السوري التي أرعبت الإسرائيليين ودفعت الكثير من محلليهم إلى اعتبار السيطرة على حلب من قبل الجيش السوريّ بمثابة انتصار كامل الأوصاف للرئيس الأسد في الحرب الدامية المُستمرّة منذ أكثر من خمس سنوات، وإنما يتجاوز ما سبق إلى الخشية من التدحرج نحو حرب إقليمية تشارك فيها أطراف إقليمية، وبروز رزمة من التعقيدات الإقليمية والدولية التي باتت تنتظم في جبهتين متقابلتين، على وقع الأحداث السورية المتصاعدة وتأثيراتها البيّنة والواضحة على الجوار الإقليمي، وبالأخصّ في العراق ولبنان والأردن.
ردود الفعل الإسرائيلية التي أعقبت إعلان التصدي السوري للطائرات الإسرائيلية، والتي تصدّرها نفي جيش الاحتلال إسقاط أيّ طائرة تابعة له، وزعمه أنّ الصواريخ السورية أرض – جو أخطأت أهدافها، عكست تردّداً وحيرة وارتباكاً في القيادة الإسرائيلية، ومن خلفها الإدارة الأميركية التي لا بدّ من موافقتها على أيّ عمل عسكري، سواء ضدّ سورية أو أيّ من حلفائها، كما ظهَرت عدم القدرة على اتخاذ قرار استراتيجي حاسم بخصوص سورية التي تنوس الرغبة الإسرائيلية حيالها ما بين حدّي، الفرصة التي يمكن اقتناصها للمساهمة الفعّالة في مواصلة عملية تدمير بناها العسكرية والاقتصادية، كتوطئة لفرض حزام أمني على طول حدود الجولان المحتلّ، على غرار الشريط الحدودي الذي أقامته قوات الاحتلال في جنوب لبنان في ثمانينات القرن الماضي، والمخاطر التي يراكمها، ليس فقط تواجد الإيرانيين وحزب الله واستعداداتهما لحصول مواجهة في الجنوب السوري، ولا سيما بعد تواتر الأنباء عن قرب إطلاق المسلحين عملية عسكرية هناك بعد فشل الجولة الأولى من معركتي ما سمّي «قادسية الجنوب» التي لم تحقق أية نتائج تذكر خلال الأيام الماضية، وتعويضاً عن خسائر الشمال، وإنما أيضاً تداعيات الاتفاق الأميركي الروسي الأخير الذي اعتبرته «إسرائيل»، ورغم تقديرها أنه لن يصل الى النتائج الموضوعة وأنه محكوم بالفشل، يتعارض ومصالحها في سورية، كونه يؤكد بدء مسار التراجع الأميركي عن الأهداف المأمولة، إسرائيلياً، تجاه إسقاط النظام السوري، أو إضعافه وحلفائه، وهما المعياران الأساسيان اللذان يحكمان موقف تل أبيب من أيّ تطوّر سياسي أو ميداني في الساحة السورية.
التعبير الأبرز للارتباك الإسرائيلي وعدم القدرة على حسم الخيارات والتردّد ما بين الاستسلام للإرادة السورية والتراجع عما يسمّى «معادلة انزلاق القصف» وإظهار القوة، كون السوريين لم يعد باستطاعتهم السكوت على هذه الانتهاكات التي تساهم في تعزيز مواقف ومواقع الإرهابيين المسلحين، وبين المضيّ قدماً في تشكيل غطاء ميداني مباشر لهؤلاء الإرهابيين، ولا سيما لـ «جبهة النصرة»، وفي السعي، تاليا، إلى تشكيل «المنطقة العازلة» التي يجري العمل على بلورة مخططاتها في مطابخ صنع القرار الإسرائيلية. هذا التعبير الذي قيل إنه ثمرة دراسة مستفيضة، جاء على طريقة «خطوة إلى الأمام… خطوتان إلى الوراء»، ففي مقابل عدم ردّ جيش الاحتلال على سقوط ثلاث قذائف سورية في الجولان المحتلّ غداة التصدي السوري للطائرات الإسرائيلية، وهو ما يتعارض والموقف التقليدي الذي يؤكد على ضرورة الردّ على كلّ قذيفة تتسرّب إلى الأراضي المحتلة، ومن ثم شنّ عدة غارات إضافية «غير فعّالة» على مناطق محاذية للجولان المحتلّ، أرسلت «إسرائيل» رزمة مما يسمّيه الإعلام العبري «رسائل الردع» موجهة إلى سورية وحزب الله، كان اللافت فيها الإعلان عن مناورة «إسرائيلية» كبيرة، حاكت مواجهة مع الجيش السوري وحلفائه على جبهتين لبنان وسورية ، وتخللتها تدريبات على استدعاء 200 ألف جندي من الاحتياط، والإعلان أيضاً عن مناورة أخرى مخصّصة لما سمّي «ردع حزب الله» حاكت سيناريوات قتال في مواجهة الحزب، وإخلاء المستوطنين من المستوطنات القريبة من الحدود مع لبنان، وذلك بموازاة إقرار تعزيز علاج جرحى المسلحين في المستشفيات الإسرائيلية ونقلهم عبر حافلات من الحدود بشكل ثابت يومياً إلى مستشفى زيف في صفد، ومن ثم إعادتهم بعد تلقيهم العلاج الى الأراضي السورية.
ومع أنّ ثمة ميلاً لاعتبار التصعيد «الإسرائيلي» ودخول قوات الاحتلال الفظ والمباشر على خارطة المعارك في الخاصرة الجنوبية لسورية، يعكس رغبة في حجز مكان في خارطة عملية «مكافحة داعش» التي اتفق عليها الروس والأميركيون، بدليل ما يُشاع عن عملية أميركية ـ أردنية بمساعدة ما يسمّى «الجيش الحر» لإنهاء «داعش» في حوض اليرموك على الحدود الأردنية وحدود الجولان المحتلّ، وذلك تحضيراً لمرحلة ما بعد «التنظيم» قرب حدود الجولان، ودخول بازار التفاوض على سورية، تالياً، من هذه البوابة، غير أنّ مراقبين آخرين لا يستبعدون أن تكون الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على مواقع الجيش السوري، بالتزامن مع هجمات الفصائل المسلحة المتوكئة على سياج الاحتلال ومواقعه العسكرية، محاولة استباقية من الرعاة الإقليميين لهذه الفصائل، للالتفاف على الهدنة والتفاهمات التي نجح الروس في دفعها قدماً في المفاوضات مع الأميركيين، قبل أن يقصفها عدوان الطائرات الأميركية على الجيش السوري في دير الزور، ما يعني بأنّ «هدنة أيلول» التي أعلنها لافروف وكيري ليست أكثر من محطة للعب في الوقت الضائع سياسياً، وإعداد الأوراق عسكرياً، استعداداً للحظة انهيار هذه الهدنة.
في المقابل، ولأنها المرة الأولى التي تتحدّث فيها وزارة الدفاع السورية عن إجراءات ميدانية رادعة إزاء الاعتداءات «الإسرائيلية»، فإنّ ثمة جديداً عنوانه الانتقال إلى المواجهة المباشرة، بعد أن كانت تتمّ هذه المواجهة عبر طرف ثالث، ذلك أنّ دمشق التي تعتقد، وحليفيها حزب الله وإيران، بأنّ الإخلال بتوازن الجنوب سيكون مكلفاً، باتت ترى نفسها في موقع يسمح لها بتوجيه رسائل قوة، سواء كانت باتجاه تل ابيب أو أنقرة، خاصة أنها «تتصرف ضمن إطار القانون الدولي الذي يسمح لها بالدفاع عن أراضيها». ووفق بعض المعلومات، فقد تمّ تنسيق الموقف مع الحلفاء قبيل إعلان قيادة الجيش السوري إسقاط الطائرتين الإسرائيليتين، ما يشي بأنّ ثمة تفاهماً سورياً روسياً – إيرانياً، يقضي بإطلاق يد الجيش السوري في اتخاذ القرارات السريعة المناسبة للردّ على الاعتداءات الإسرائيلية، وهو ما عززه إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأنّ الوضع في الجولان «يعكس زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط عموماً، كما أنه يعكس تنامي الخطر الإرهابي الذي تجب علينا محاربته».
في كلّ الأحوال، وبانتظار ما تحمله الأشهر والأسابيع، وربما الأيام المقبلة من تطورات ومفاجآت، لا يبدو في الأفق، حتى الآن على الأقلّ، ما يشير إلى تطورات دراماتيكية مفاجئة من شأنها تغيير صورة المشهد في جبهة الجنوب السوري بشكل جذري، فـ»إسرائيل» التي استثمرت في التنظيمات المسلحة طوال السنوات الماضية، لن تتنازل بسهولة عن تدمير سورية وتقسيمها وإقامة «الحزام الأمني» بمحاذاة الجولان المحتلّ، ودمشق التي صمدت خمس سنوات ونصف السنة، اختارت، فيما يبدو، نقل رسالة مفادها أنها لن تسمح لـ»إسرائيل»، ولا لتركيا، باقتطاع أيّ شبر من الأرض، وأنّ ما جرى لن يكون استثنائياً في المستقبل.
كاتب فلسطيني